وقد بين سبحانه لهم العبرة بما نزل بمن سبقوا ومن مجاورتهم ديارهم ، فقال:( أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَارًا ) .
القرن:الجماعة المقترنة التي تعيش في زمن واحد والاستفهام داخل على فعل محذوف دل عليه سابق الكلام ولاحقه ، والمعنى المقرب:ايعرضون ذلك الإعراض عن المعجزات التي تبين لهم الحق ، ويستهزءون ذلك الاستهزاء لأهل الحق ولم يروا بأن ينظروا نظرة تدبر وتفكر العدد الكثير من القرون الذين أهلكناهم من قبل وكانوا أشد قوة وآكد منهم ، والاستفهام هنا إنكاري لإنكار الواقع فهو للتوبيخ ، لأنهم فعلا أعرضوا واستهزءوا ولم يتدبروا ويتبصروا والآية الكريمة تنبههم إلى وجوب التبصر والتدبر ، وتذكرهم بما يستقبلهم إن استمروا على غيهم وهي فوق ذلك على كمال قدرته على تنفيذ إنذاره وقد ذكر الله تعالى لأولئك الأقوام الذين أهلكهم الله تعالى في سبيل بيان العبرة .
أولا:بأنهم مكنوا في الأرض بما لا يمكن للمشركين الذين عاصروا محمدا صلى الله عليه وسلم فقال تعالى:( مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم ) أي جعلنا لهم مكانا في الأرض لم نمكن لكم مثله ، أي لم نمكنه لكم ، وذلك كناية عن سعة السلطان ، وقيام الصنائع وكثرة العمران وثبات حكمهم واستقرار أمرهم فأنتم معشر المشركين لم يكن لكم شيء من ذلك ، وأنى يكون مكانكم بجوار مكان فرعون ، وأنى يكون سعة عمرانكم بجوار سبأ في مسكنهم الذي كان فيه جنات عن يمين وشمال .
وثانيا:أن الله جعل لهم العيش رغدا ، ورغد العيش كان غيثا من السماء فأرسل عليم السماء مدرارا والمراد من السماء هنا جهة العلو ، ولذا أفردت فقال تعالت كلماته:( وأرسلنا السماء عليهم مدرارا ) أي أرسلنا عليهم السحب تنزل دارة الماء ، ويصح أن نقول:إنه أرسل ما في السماء من السحب أو اعتبرت السحب الماطرة فإنها سماء باعتبارها في وجهة العلو ، وفي التعبير ب ( ارسل ) بدل ( أنزل ) إشارة إلى معنى الغوث والإمداد المستمر الدائم والعرب لم يكن مطرهم كثيرا بل كان غيثا يجيءالفينة بعد الفينة .
وثالثها:بالأنهار تجري من تحتهم ولذلك قال تعالى:( وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم ) في التعبير ب ( جعل ) معنى التحويل أي حولنا أمطار السماء إلى انهار تجري من تحتهم أي تحت سلطانهم يسيرون فبأي شيء يفترون ويستعلون وماذا صنع بهؤلاء ؟ قال:
( فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ ) .
الفاء هنا للتفصيل والبيان بعد الإجمال لقد أشار سبحانه إلى ما نزل بهم ، وهنا يبين سبحانه أنه أهلكهم بسبب ذنوبهم والإهلاك بسبب الذنوب له مظهران .
أحدهما:أن الذنوب ذاتها تهلك أمما إذ تشيع فيهم الترف والغرور والفساد في الأرض وبذلك تنحل وتضمحل وتذهب قوتها .
المظهر الثاني:إهلاك الله تعالى الأمم عقابا على أوزارها وإن الأمم إذا هلكت بسبب فسادها جاء جيل يصلح أمرها ، ويزيل أسباب الفساد ويجدد المتخرب وهو الجيل الذي ينشئه الله على آثار المفسدين وهو غير الجيل السابق ولذلك كان التنكير وكان الوصف ب ( آخرين ) .