التّفسير
مصير الطّغاة:
ابتداء من هذه الآية وما بعدها يشرع القرآن بعرض خطّة تربوية مرحلية لإِيقاظ عبدة الأصنام والمشركين تتناسب مع اختلاف الدوافع عند الفريقين ،يبدأ أوّلا بمكافحة عامل ( الغرور ) وهو من عوامل الطغيان والعصيان والانحراف المهمّة ،فيذكرهم بالأمم السالفة ومصائرهم المؤلمة ،وبذلك يحذر هؤلاء الذين غطت أبصارهم غشاوة الغرور ،ويقول: ( ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكنّاهم في الأرض ما لم نمكّن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدراًرا{[1139]} وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم ) .
ولكنّهم لمّا استمروا على طريق الطغيان ،لم تستطع هذه الإِمكانات إِنقاذهم من العقاب الإِلهي: ( فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرناً آخرين ) .
أفلا ينبغي أنّ يكون علمهم بمصائر الماضين عبرة لهم ،توقظهم من نوم غفلتهم ،ومن سكرتهم ؟أليس الله الذي أهلك السابقين بقادر على أن يهلك هؤلاء أيضاً ؟
ها هنا بضع نقاط نلفت إِليها الانتباه:
1على الرّغم من أن «قرن » تعني فترة طويلة من الزمن ( مئة ،أو سبعين أو ثلاثين سنة ) ،ولكنّها قد تعني أيضاًكما يقول اللغويونالقوم والجماعة في زمان معين ( القرن من الاقتران بمعنى التقارب ،وبالنظر لأنّ أهل العصر الواحد أو العصور المتقاربة قريبون من بعضهم فقد يطلق عليهم وعلى زمانهم اسم القرن ) .
2يتكرر في القرآن القول بأنّ الإِمكانات المادية الكثيرة تبعث على الغرور والغفلة لدى ضعفاء النفس من الناس كقوله تعالى: ( إِنّ الإِنسان ليطغى أن رآه استغنى ){[1140]} لأنّهم بتوفر تلك الإِمكانات عندهم يرون أنفسهم في غنى عن الله ،غافلين عن العناية الإِلهية والإِمدادات الربانية المغدقة عليهم في كل لحظة وثانية ،ولولاها لما استمروا على قيد الحياة .
3ليس هذا التحذير مختصاً بعبدة الأصنام ،فالقرآن يخاطبأيضاًاليوم العالم الصناعي الثري الذي أثملته الإِمكانات المادية وملأته بالغرور ،ويحذره من نسيان الأقوام السابقة وممّا حاق بهم نتيجة ما ارتكبوه من ذنوب ،وكأني بالقرآن يقول للمغرورين في عالمنا اليوم: إِنّكم ستفقدون كل شيء بانطلاق شرارة حرب عالمية أُخرى ،لتعودوا إِلى عصر ما قبل التمدن الصناعي اعلموا أنّ سبب تعاسة أُولئك لم يكن شيئاً سوى إِثمهم وظلمهم واضطهادهم الناس وعدم إيمانهم وهذه عوامل ظاهرة في مجتمعكم أيضاً .
حقاً إنّ دراسة تاريخ فراعنة مصر ،وملوك سبأ وسلاطين كلدة وآشور ،وقياصرة الرّوم ،ومعيشتهم الباذخة الأسطورية وما كانوا يتقلبون فيه من نعم لا تعد ولا تحصى ،ثمّ رؤية عواقب أُمورهم المؤلمة التي حاقت بهم بسبب ظلمهم الذي قوض أركان حياتهم ،فيها أعظم العبر والدروس .