( قل مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ 63 قُلِ اللّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ 64 قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ 65 ) .
في الآيات السابقة بين الله سبحانه وتعالى عموم علمه ، ما خفى منه وما ظهر وما جد وما يجد حتى إن الورقة تسقط يعلمها ، والحبة تنبت فتكون في علمه لكونها وحالها ، يعلم الرطب واليابس من الثمرات وهو الذي نظم الوجود بمقتضى هذا العلم المحيط هو الذي يعلم الوفاة بالليل ، والصحو بعد ، وما يكسب بالنهار من خير نافع ، وشر ضار ، وأنه المسيطر على كل شيء ، وأن المرجع والمآب إليه وعنده الحساب السريع والحكم العادل .
وفي هذه الآيات يبين نعم الله تعالى عليهم إذا ادلهمت بهم كارثة يضرعون إليه وبين أنه إذا كان هو وحده الملجأ عند الكارثة تكرثهم فهو القادر على أن ينزل بهم البأساء والضراء ، ومع هذه النعم السالفة ومظاهر القدرة الباهرة يكذبون بالحق إذ جاءهم وأنباء الرسالة ثابتة مستقرة لا تتخلف وأنه إذا كان الناس فيهم اطهار وأشرار فعلى الأطهار ألا يخوضوا في فتن الأشرار ، وقد ابتدأ سبحانه بقوله:
( قل مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً ) .
كان المشركون يعرفون الله سبحانه وتعالى ، ولكن لا يؤمنون به ولا يخصونه بالعبادة بل يشركون مع الأوثان ويقولون:ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى وكذلك أكثر الوثنيين يعرفون أن قوة خفية تسير الوجود ولكنهم يعبدون أشياء حسية يحسبون أن روح الأولوهية تحل فيها ، وهم في غيهم يعمهون .
فلا عجب ، إذا كان المشركون عندما تشتد بهم الشديدة لا يتجهون إلا إلى خالق الكون ومنشئه ومسيره والقيوم عليه سبحانه وتعالى ولقد أمر الله تعالى الرسول الكريم أن يوجه أنظارهم إلى أنه لا يذكر في الشديدة إلا الله سبحانه وتعالى وأنهم يذكرونه حيث تكون الكريهة وحيث يكون الخطر ، فأمره بأن يوجه إليهم الاستفهام ليقروا بهذه الحقيقة:( قل من ينجيهم من ظلمات البرو البحر ) والاستفهام إنكاري تقريري بمعنى لا أحد ينجيكم من ظلمات البر والبحر وأنتم تقرون بذلك إ ذتدعونه تضرعا وخفية ، فلا تلجأون لغيره ولا تجدون منجاة إلا من عنده ، والظلمة هنا الشدة فهي مجاز شبهت فيه الشدة والكرب بالظلمة لأن النفس فيها تتحير وتشده فتلبس فتكون كأنها لا ترى ولا تعرف وجه الخروج ، ولذلك يقال لليوم الشديد الذي يملؤه الكرب:يوم مظلم ويقولون نهار ذو كواكب أي انه لشدته يكون كأنه ليل ترى فيه الكواكب وفي شدائد البر والبحر تكون غمة حقيقية فقد يكون غيم شديد لا رؤية فيه ، أو ريح عاصف وإعصار قد يكون الخسف الذي يلقى في ظلمات الأرض وقد يكون اصطخاب الأمواج بالأذى وهكذا فتجتمع ظلمة الشدة ، والظلمة الحقيقية وقد تكون الشدة حيرة يضلون فيها الطريق فتبتلعهم الصحراء أو تكون إذا ركبوا البحر ، فضلت فيه المحجة{[1021]} أو ألقتهم الريح لا يهتدون ولا يجدون المنجاة ، فكل هذه ظلمات متكاثفة .
وان حالهم أنهم لا يلجأون إلا إليه ولذا قال سبحانه عنهم:( تدعونه تضرعا وخفية ) أي أنكم في حال الشدة تتجهون إليه سبحانه وتعالى بقلوبكم ونفوسكم ولا تجدون ملجأ منه إلا إليه ، ويظهر ذلك الالتجاء القلبي ضراعة وتذللا يجري على ألسنتكم ولا تجدون سبيلا للامتناع عن الجهر بالضراعة والتذلل لله تعالى ، وتسليم الوجه له ، فالتضرع دعاء الله تعالى مستسلمين له جهرا والخفية خنوع النفس ، واتجاهها قلبيا إليه سبحانه وقد صور الله تعالى ضراعتهم بقوله:( لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين ) .
هذا قسم يقسمونه ويؤكدون به ما هم عليه من الالتجاء إلى الله ، ولذلك كل التوكيد بالنون الثقيلة وباللام وموقع هذه الجملة مما قبلها أنها تفسير للضراعة التي جهروا بها أو هي تفسير بمعنى ( تدعون ) فهم يدعون الله تعالى ، بمعنى أنهم في سريرة أنفسهم وضراعة قولهم ، يقسمون بان الله تعالى إن أنجاهم من هذه الكروب الكاربة والشدائد الشديدة ليشكرونه حتى شكره الله تعالى بالعبادة وتخصيصه بها ، إن أشركوا معه غيره في العبادة لا يعدون عابدين اذ أنه حيث أفرد بالالتجاء لا يتصور إلا أن يفرد سبحانه وتعالى بالعبادة .
ويصح أن يكون قوله تعالى عنهم
( لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين ) مقولا لقول محذوف تقديره قائلين أنجيتنا من هذه .
ومع أنهم وعدوا بالشكر أي إخلاص العبادة لله تعالى فهل وفوا بذلك ؟ إنهم لم يفوا إذ إنها حال إذعان في الشدة فإذا نجوا عاد إليهم جحودهم ، وغرتهم أنفسهم وأمانيهم .