الله هو المنجي من ظلمات البر والبحر
{قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} تطرح هذه الفقرة علامة استفهام حول حقيقة بديهية على قلب الإنسان وعقله ،ليستوعبها ويعيها ويحرّكها في وعيه ،لئلا تغيب عنه لحظةً واحدةً ،في ضباب الغفلة ،وجلبة الشهوات والمطامع ،ليعيشدائماًمع الله كملجأ وحيد ،عندما تدهم الإنسان ظلمات البرّ ،فتسيطر على مشاعره فترتجف نفسه ،وتهتز ،وتتساقط تحت تأثير أشباح الظلام التي تتراكض في وعيه ،فتوحي إليه ،بكل ألوان الخوف والفزع والحيرة من خيالات الجنّ والشياطين والحيوانات المفترسة والناس القتلة ،وغير ذلك ،ما يجعل الإنسان يفقد توازنه في التعامل مع الأشياء من حوله ،وربما يفقد عقله معه ..وهكذا عندما يعيش ظلمات البحر ،في نطاق ظلمة الليل ،وظلمة الأمواج ،وظلمة الخيالات السوداء والأشباح المخيفة التي تتراكض في إحساسه ووعيه ،فتفقده الأمن والطمأنينة ،وتقوده إلى الحيرة والاهتزاز ،فإنه لا يجدفي ذلك كلهإلا الله الواحد ،ملجأ الخائفين وعصمة المعتصمين ،وغياث المستغيثين ،يتعلق به قلبه ،في إشراقةٍ فطريةٍ هادئةٍ توحي له بالثقة وتبعث في داخله الشعور بالحياة الممتدّة الواسعة ،في خطوات الحقيقة العميقة التي تفرض نفسها على الموقف ،فتطرد من أمامها كل الخيالات والأشباح .
وتبدأ الابتهالات والتطلعات في خشوع الخوف ،وخضوع العبادة{تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} وهكذا ينطلق الإنسان في ابتهالاته ليعطي الله عهداً على نفسه بالالتزام بخطّ الشكر الذي يعني خط الطاعة المطلقة في كل أوامره ونواهيه ،وذلك في إحساسٍ خفيٍّ بأن الله يحقق للشاكرين رغباتهم وأحلامهم كجزاءٍ على شكرهم .
استغراق الإنسان في كفر نعم الله
5إن قوله تعالى:{قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} يشير إلى الحالات الصعبة أو شبه اليائسة التي يعيش الإنسان فيها الإحساس بالخطر الداهم أو المحقق عندما يواجه الشدائد والأهوال في حياته في البرّ والبحر ،فلا يجد أمامه أحداً من الناس الذين اعتاد الاستعانة بهم ،ولا يملك وسيلة معينة يعتمد عليها ،فيلجأ إلى الله بفطرته النقية الصافية التي تفرض نفسها عليه بشكلٍ عفوي بكل آماله وتمنياته وثقته ،ويطلب إليه أن ينجيه من هذه المشكلة أو البلية في وعد أكيد أنه سينتقل من حالة الكفر العملي بالنعمة ،إلى الشكر له فيها ،المتمثل بالعودة إلى خط الإيمان والعمل الصالح في حالة من التضرع الذي يوحي بالتعبير عن الحاجة والمسكنة النفسية في أسلوب علنيّ يرتفع بالشكوى والصراخ ،أو في أسلوب خفيّ يهمس به القلب واللسان ..وينجيه الله من ذلك كله ،فيخرج من البلاء معافى ومن الخطر سالماً ،ويبتعد عن كل الهمّ والغمّ والحزن الذي كان يعيشه في حياته ،فينقلب من مشكلته مسروراً ،وينسى مشكلته في غمار هذه النتائج الإيجابية الطيبة .
وينسى ربه ،ويستغرق من جديد في الناس الذين اتخذهم شركاء من دون الله ،ويعود إلى الكفر بنعمة الله ،ويخرج من تلك الصحوة الإيمانية التي انفتح فيها على الله وآمن فيها بوجوده وتوحيده من خلال هذه الهزّة العنيفة لحياته ،ليعود إلى الغفلة المطبقة والنوم العميق .
ولعلّ هذا الحديث عن إجابة الله للدعاء في إنجائهم من البلاء الذي حلّ بهم ،يوحي للإنسان بالإجابة الإلهية الحاسمة لكل من دعاه إذا أخلص في دعائه وإن ابتعد بعد ذلك عن أجواء الدعاء .