بين العقل والاوهام
انتهى إبراهيم بعد أن تعرف الكواكب وأحوالها ،وان واحدا منها لا يمكن أن يكون الذي يعبد وأن الأصنام لا تنفع ولا تضر واتجه الى خالق الكون ، واعتزل الشرك ، وقال:( وأعتزلكم وما تدعون من دون الله . . .48 ) ( مريم ) وبعد هذا أخذوا يحاجونه في أمر أصنامهم وقوتها وهددوه بأنه سيصيبه منها ضرر وهو يقول لهم:إن كانت تكيد وتضر ، فكيدوني ولا تنظروني .
والمحاجة التي أقاموها بينهم وبينه كانت محاجة بين اثنتين احدهما اعتمد على الهداية والعقل ، والثاني اعتمد على الخرافة والوهم ولقد قال تعالى:
وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ ) والمحاجة تكون مناظرة ، ويقدم كل واحد من المتناظرين حجته ويدلى ببرهانه ، وقد عجب إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، أن يحاجوه في الله تعالى منكرين له ، قال:( أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ ) والاستفهام إنكاري لإنكار الواقع وإنكار الواقع توبيخ فهو يوبخهم ويؤيسهم من نتيجة المحاجة فيقول:( وقد هدان ) أي أنه لا مطمع لكم في أن أعود إلى عبادة الأصنام وقد هداني الله تعالى ووفقني لأن أدرك أنه وحده المعبود بحق ، ولا معبود سواه .
وتدل الآية الكريمة على أن أوهامهم زينت لهم أن أصنامهم قادرة على إنزال الأذى فخوفوه من الأذى وقد ذكر سبحانه وتعالى محاجتهم لإبراهيم عليه السلام في مواضع من كتابه العزيز فقد قال تعالى:( قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين 55 قال بل ربكم رب السموات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين 56 ) ( الأنبياء ) .
وجاء في محاجتهم:( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ69 ا ِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ 70قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ 71قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ 72أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ 73قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ 74قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ 75أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ 76فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ 77الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ 78وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ 79وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ 80وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ 81وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ 82 ) ( الشعراء ) .
هذه عبارات من المحاجة التي اثبت بها أنه سبحانه وتعالى هداه ولا يصح أن يتوهموا أنه يعود إليهم أن هداه الله وقد هددوه بأن تصيبه آلهتهم بأذى رجاء أن يخاف ويسكت عن أصنامهم وفحطمها ، وجعلها جذاذا غلا كبيرها ، ولكنه قد اعتصم بالله تعالى وهو يرى أنها لا تضر ولا تنفع وهكذا نجد العقل والهدى في صدام مع الوهم والضلال ولذا قال لهم في إدراك عقلي مستقيم:( ولا أخاف ما تشركون به ) أي أنني لم يستول على الوهم كاستيلائه عليكم ، فأخاف مما تشركون عبادته مع الله تعالى ، فانا أعلم أنها لا تضر ولا تنفع ، وهي أحجار صماء ، تنقل من مكان إلى مكان فكيف أخاف منها ، كيف أخاف من حجر لا يسمع ولا يبصر تصنعونها بأيديكم وتعبدونها بأوهامكم .
وقد كان إبراهيم حريصا في إجابته ويخشى أن يصيبه قدر ، فيتوهمون أن ذلك من سر آلهتهم فقطع عليه السلام أسباب ذلك ، وقال مطمئنا إلى قضاء الله تعالى:( إلا ان يشاء ربي شيئا ) هذا استثناء يدل على أمرين:
أولهما:تفويضه لله تعالى في كل أموره ، وأنه راض بما يقدره الله تعالى له ، ويتقبل ما يأتي به وأنه وحده الذي يفعل ما يشاء .
ثانيهما:الرد عليهم في أن أصنامهم تستطيع أن تفعل شيئا ، انما الأمر كله لله وحده هو الذي يصيب بالضرر إن شاء وهو الذي ينزل الخير من سحائب رضوانه إن شاء .
وأنه قادر على ذلك ، وهو القادر وحده ، وهو العليم بكل شيء يضع الأمور في مواضعها لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ، وكل شيء على مقتضى علمه بما كان وما سيكون ولذا قال تعالى:( وسع ربي كل شيء علما ) وهو تمييز محول ومعناه:وسع علم ربي كل شيء ، وفي تأخير التمييز إيهام مؤقت للتشويق وبذلك يثبت في النفوس علم الله تعالى فضل ثبوت .
وذكر لله تعالى بوصف ( ربي ) للدلالة على أنه يستشعر معنى الربوبية دائما فهو الذي رباه ، وهو الذي يحميه ويحفظه من كل ضر وسوء الا أن يكون من حكمة أرادها وهو العليم الخبير .
ثم قال تعالى ( أفلا تتذكرون ) الهمزة للاستفهام والفاء للإفصاح ، والمعنى إذا كان الأمر كله بيد الله تعالى وأن أحجاركم لا تنفع ولا تضر أفلا تتذكرون الأمور وتعرفونها على وجهها ، والاستفهام هنا للتحريض على التذكر ، ولقد كان حالهم مع إبراهيم كحال قوم هود مع نبيهم فقالوا لهم:( قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ 53إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ 54مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ 55إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا . . . 56 ) ( هود ) .
إن حال هؤلاء الذين ساروا وراء الأوهام عجب ، يخوفون نبي الله تعالى من أن يصيبه سوء من أحجارهم التي لا تضر ولا تنفع كما هو مشاهد بالحس ومدرك العقل ومع ذلك لا يخافون أن ينزل بهم مقت من الله تعالى الذي يملك الوجود كله ، آلهتهم وغيرها .
ولذا قال تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام:( وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا ) .