{وَحَآجَّهُ}: خاصمه ،المحاجة: أن يطلب كل واحد أن يرد الآخر عن حجته ومحجته ،والحجة: الدلالة المبينة للمحجّة ،أي: المقصد المستقيم الذي يقتضي صحة أحد النقيضين .
{وَلَمْ يَلْبِسُواْ}: لم يستروا ولم يخلطوا .واللبس: الستر ،وأصل اللبس ستر الشيء ،ويقال ذلك في المعاني .يقال: لبست عليه أمره .
{بِظُلْمٍ}: جاء في المجمع: قال الأصمعي: الظلم في اللغة وضع الشيء في غير موضعه ،قال الشاعر يمدح قوماً:
هرتُ الشقاشق ظلامون للجزر
يريد أنهم عرقبوها فوضعوا النحر في غير موضعه .
أما المراد بالظلم هنا ،فقد ذهب أكثر المفسرين إلى أنه الشرك انطلاقاً من قوله تعالى:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [ لقمان:31] وقد روي عن عبد الله بن مسعود قال:"لما نزلت هذه الآية شقّ على الناس وقالوا: يا رسول الله ،وأيّنا لم يظلم نفسه ؟!فقال( ص ) إنه ليس الذي تعنون ألم تستمعوا إلى ما قال العبد الصالح ،يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم .وقال الجبائي والبلخي: يدخل في الظلم كل كبيرة تحبط ثواب الطاعة "،وجاء في الحديث عن أبي عبد اللهجعفر الصادق( ع ) مما رواه أبو بصير قال:"سألت أبا عبد الله عن قول الله عز وجل{الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} قال: بشكّ ،وفي رواية أخرى عنه أنه الشرك ".
والظاهر أن الكلمة تتسع لكل انحراف عن خط الإيمان بشكل مباشر أو غير مباشر ،لأن ذلك مصداق لوضع الشيء في غير موضعه بالانحراف بالعقيدة عن أصولها وتفاصيلها ومسارها الطبيعي وعن موقعها الحقيقي ،بحيث تشملفي بعض الحالاتالانحراف العملي الذي يتحرك في خط الانحراف العقيدي ،كالذين ينحرفون عن ولاية الحق إلى ولاية الباطل ،ومن ولاية الله إلى ولاية الشيطان ،وهذا ما تحدثت به الروايات عن أهل البيت( ع ) في تطبيق المسألة على الولاية بفروعها المتعددة .
المحاجّة بين إبراهيم وقومه
{وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ} ودخل قوم إبراهيم معه في حوارٍ عاطفيٍّإن صح التعبيرفقد حاولوا التأثير عليه بأساليب التخويف من غضبة الأصنام عليه ،كما يوحي جوابه في الآية ،وما يظهر من الكلام الذي نقله اللهفي آيةٍ أخرى عنهم{إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [ هود:54] .وربما يبدو من جوّ هذه الآيات أنهم لا ينكرون وجود الله ،بل كانوا يشركون به في العقيدة والالتزام ،إذ كانوا يريدون له أن يتفادى النتائج السلبية من كفره بالأصنام ،بالانتقال إلى الإيمان بها كشركاء لله .
{قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِى اللَّهِ} ووقف إبراهيم يناقشهم من موقع القوي في العقيدة والالتزام ،فهو لا يعتبر قضية توحيد الله قضيةً فكريةً تأخذ مجالها في الحوار والنقاش ،بل هي قضيةٌ وجدانيةٌ يحسّ بها الإنسان في فكره كما يحس ببديهيات الأمور ،ويعيشها في إحساسه كما يحس بالأشياء من حوله ،لأنها تتحرك في كيانه كإشراقة النور في العيون ،فهي لا تحتاج إلا إلى الفطرة السليمة التي تواجه الأشياء من دون حجابٍ أو تعقيدٍ ،لتوازن في يقظةٍ وجدانية بين ما هو الفقر المطلق في كل الموجودات ،والغنى المطلق في ذات الله ،لتخرج بنتيجة واضحة ،أنه هو الخالق للكل ،من دون أن يكون له منازعٌ يعادله ولا شبيهٌ يشاكله ولا ظهيرٌ يعاضده ،هو مصدر الحياة والقوّة في كل شيءٍ .
وفي ضوء هذا ،أراد إبراهيم( ع ) أن يوحي إليهم بأن توحيده لله ،لا يمكن أن يرقى إليه الشك ليدخل في حوارٍ حوله ،لأن سبيله في الإيمان ،ليس سبيل التقليد اللاّواعي ،بل هو سبيل المعاناة الفكرية والروحية التي عاشت الهدى كله لله في وعيها للحقيقة المطلقة .
أمّا هم فمشكلتهم أنّهم لم يهتدوا ،لأنهم عطّلوا إحساسهم عن الالتقاء ببديهيات الأفكار ،وأغلقوا وجدانهم عن الحقيقة القادمة إليهم ببساطة ،وجمّدوا فطرتهم عن الحركة في آفاق الحياة .ولذلك فإن عليهم الرجوع إلى فطرتهم ،ورفع الغشاوة عن بصيرتهم ،والانطلاق إلى الحقيقة بصفاء ،ليجدوا الهدى بانتظارهم في بداية الطريق ،لا في نهايته ،وبذلك يكون قوله:{وَقَدْ هَدَانِي} وارداً على سبيل الإيحاء بالوضوح الذي يعيشه في مواجهة الضباب الذي يحيط بهم .
أمَّا الخوف من الأصنام ،فهو من الأمور التي لم ترد في حسابه ،لأنه يعرف جيّداً طبيعتها الخالية من كل حياة أو إحساسٍ أو قوّة ..{وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} فهي لا تملك لنفسها أيّة قوّة إيجابية أو سلبيّةٍ ،فكيف تملك الإضرار بالآخرين ؟وهكذا يواجه موضوع التخويف باحتقار واستهانةٍ{إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّي شَيْئاً} ولكنه يخاف الله من خلال إدراكه لعظمته المطلقة{وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} .
ولهذا أراد أن يوحي بأن هذا الإحساس بالأمن أمام الأصنام وغيرها لا ينطلق من الشعور بالقوّة الذاتية ،بل من الإحساس بالرعاية الإلهية التي تحميه من كل ما يمكن أن يكون مصدراً للضرر ،بشكل واقعي أو افتراضيّ من خلال ما يتوهمه الناس ،فإذا أراد الله الإضرار به من خلال أيّ شيء منها ،فلا مجال للدفاع ،فهو مصدر الأمن عند إحساس الإنسان بالأمن ،وهو مصدر الخوف في ما يمكن أن يكون أساساً للخوف ،لأنه المحيط بكل شيء ،فيعرف منها ما لا نعرف ،فيسلّطها على من يشاء ،ويمنعها عمّن يشاء ،وهكذا نجد في هذا الاستثناء ما يشبه الاستثناء المنقطع الذي لا يرتبط بمدلول الكلمة بل يتصل بإيحاءاتها بما حولها من الأشياء والقضايا{أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ} .
ثم يختم الفكرة ،بالدعوة إلى أن يتذكروا من خلال التفكير الواعي المستقل غير الخاضع للتقاليد ،ليلتقوا بالحقيقة من أقرب طريق .