{إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَواتِ وَالأرْضَ} .وهكذا تدفّقت إشراقة الإيمان في وعيه وفي قلبه ،فأحسّ بأن الله هو شيء لا كالأشياء لأن الأشياء نتاج قدرته ..وأدرك أن الله لا يُحَسّ كما تحس الموجودات الآخرى بالسمع والبصر واللمس ،ولكنه يُدرك بالعقل والقلب والشعور ،من خلال كل هذه المخلوقات التي تحيط بالإنسان في الكون الكبير ،من السموات والأرض وما فيهن وما بينهن ،فتترك لديه انطباعاً بأن الله هو الذي فطرها وأوجدها ،ومن خلال هذه الانطلاقة الإيمانية الرائعة التي أحس معها بالراحة والطمأنينة والانفتاح ،وقف بكل كيانه ،ليحوّل كل وجههوالوجه هنا كناية عن الذات بجميع التزاماتها وعلاقاتها وتطلعاتهاإلى الله ،حنيفاً مخلصاً مائلاً عن خط الانحراف ،فهو وحده الذي تتوجه إليه العقول والقلوب والوجوه بالخضوع والطاعة المطلقة ،بإحساس العبوديّة ،وحركة الإيمان ،الذي يعلن هذا التوحيد بما يشبه الصرخة الهادرة الرافضة لكل الوجودات المحدودة ،التي تتألّه أو التي يحسبها الناس في عداد الآلهة:{وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .
رحلة الإيمان
هل هي الرحلة الأولى في طريق الإيمان لدى إبراهيم ،أو هي محاكاةٌ استعراضيّة للأجواء المحيطة به ،في ما يعتقده الناس من ألوهية الكواكب والقمر والشمس ،في محاولةٍ إيحائية لمن حوله بسخافة هذه العقائد وتفاهتها وضعفها أمام المنطق الوجداني الصافي ،وذلك من موقع ابتعاده عنها بعد اقترابه منها ،ما يعطي لموقفه بعض القوّة في الإيحاء ،باعتباره الموقف الذي عاش التجربة وعاناها ،ثم تمرّد عليها ؟
إننا نعتقد أن هذا هو الرأي الأقرب الذي يلتقي مع شخصية إبراهيم( ع ) في ما حدثنا القرآن عن حياته ،فنحن لم نلمحفي غير هذه الآيةحالة تأثره بالجوّ المحيط به ،بل ربما نرى الأمربالعكس من ذلكحالة تمرّد على البيئة حتى في ما يتعلق بالجو العائلي المتمثل في أبيه الذي نقل لنا القرآن موقف إبراهيم( ع ) منه ،وقد نستطيع استيحاء الآية السابقة التي حدثنا القرآن فيها عن كلام إبراهيم لأبيه حول الأصنام التي يعبدها أن هذا الموقف سابق لموقفه من هذه العقائد ..هذا بالإضافة إلى أن الرؤية التي حدثنا الله عنها لملكوت السموات والأرض ،لا بدَّ من أن تكون الرؤية الوجدانية الواعية التي تحاول أن تثير التفكير من خلالها وليست الرؤية البصرية الساذجة ،لأنها تبدأ مع الإنسان منذ اللحظة التي يفتح فيها عينيه على الحياة ليتطلع إلى ما فيها من موجودات يدركها البصر .
وربما كانت كلمة{وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} إشارةً إلى ذلك ،لتلتقي بكلمة{رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [ البقرة:260] مما يوحي بأن إبراهيم كان يعيش حركة الفكر الذي يريد أن ينمي من خلاله أفكاره وإيمانه ،بكل الأشياء التي تركز للفكرة قوّتها وفاعليتها وثباتها وحركتها أمام التحديات التي تواجهها ،حتى في ما يشبه الأوهام ،ليواجه الصراع الذي يعيشه ،بانفتاحٍ وقناعةٍ وقوّةٍ لا تعرف الضعف ولا التراجع في كل المجالات .
أمّا الاحتمال الأوّل ،فقد يقرّبه القائلون ،أن تكون الحادثة قد حصلت في بداية طفولته ،عندما بدأ يتطلع إلى الأشياء ،ويتأمل في الخلق .ولعل هذا هو الذي نستوحيه من الجو النفسي الساذج الذي توحي به الآية .فهذا هو إبراهيم يواجه الكوكب البعيد في السماء ولكنه يشرق في قلب الظلام ،فيشعر بالرهبة والروعة ،فيصرخفي مثل اللهفة{هَذَا رَبِّي} ،انطلاقاً مما كان يسمعه بأن الإله بعيدٌ بعيدٌ عن الإنسان ،فلمّا أفل أحس بالانقباض وقال:{لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} ،فقد نجد في كلمة{لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} بعض كلمات الطفولة البريئة ،التي تحبّ أو لا تحبُّ من خلال مشاعرها الساذجة إزاء الأشياء ،وتتكرر التجربة مع القمر ،وتنطلق الصرخة الطفولية من جديد ،تماماً كمثل الهتاف الذي يهتف به الطفل عندما يجد شيئاً قد أضاعه ،أو شيئاً قد طلبه ..وتتكرر خيبة الأمل من جديد .
ولكن الوعي يتنامى هنا ،فلا نجد ردّ الفعل طفولياً ،بل نلاحظ في ردّة الفعل حالة حيرةٍ وذهول وتوسّل إلى هذا الرب المجهول الذي يتمثله في وعيه هادياً لعباده ،أن يهديه إلى الحق لئلا يكون من القوم الضالين ..وتشرق الشمس في هذا الدفق اللاهب من النور الذهبي في إطار هذا الوجه الواسع الذي يتفايض بالشعاع كما يتفايض الينبوع بالماء الصافي الرقراق ،فتكبر الصرخة في طفوليةٍ ظاهرة:{هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ} ويكون الاعتبار هذه المرة للحجم ،في ما لا توحي به إلا أفكار الطفل أو ما يشبه الطفل ،لأن الأشياء الكبيرة توحي للفكر الساذج بالهيبة والعظمة ،بما لا توحي به الأشياء الأقل حجماً ..وتتجدد خيبة الأمل بالأفول ،ولكن تلك الإشراقة الساطعة للشمس استطاعت أن تبعث في قلبه إشراقة الإيمان الرافض لكل هذه الأوهام والظنون ،هذه هي وجهة نظر هؤلاء ،ولكننا قدمنا أن الاحتمال الثاني أقرب ،لأن حديث القرآن عن إبراهيم( ع ) لا يوحي بشيء من هذا القبيل ،ما يدل على أنه كان موحداً بالفطرة منذ البداية .
وفي كلا الاحتمالين ،يمكن للعاملين في حقل التوجيه ،استيحاء الفكرة العملية في أسلوب التربية ،من خلال الأسلوب الاستعراضي ،في ما يتمثل فيه من مناجاةٍ ذاتية تجعل الإنسان يواجه الأفكار المطروحة في الساحة ،مواجهة المؤمن بها ،ثم يقوم بمناقشتها بالطريقة التي توحي باكتشاف مواطن الضعف والخلل فيها ،بالمستوى الذي يجعلها بعيدةً عن الحقيقة ،وعن إمكان اعتبارها عقيدةً ترتبط بها قضيّة المصير ..ولا يختص الأمر بالأفكار المتصلة بالعقيدة الإلهية ،بل يمتد إلى جميع المجالات التي تمثل الخط العملي للحياة .ويمكن لنا ممارسة هذا الأسلوب في القصة والمسرح والسينما وغيرها من الأساليب التي تخاطب الجمهور لتوجيه قناعاته .وقد لا نحتاج إلى التأكيد على ضرورة دراسة المستوى العقلي والروحي للناس من أجل تركيز هذا الاتجاه على قاعدةٍ متحركة في الفكرة والأسلوب ،كما يمكن استيحاء القصة في مدلولها الرسالي في عدم خضوع الإنسان للبيئة في ما تحمل من أفكار وعاداتٍ ومشاعر ،بل يعمل على ممارسة دوره الذاتي المستقلّ ،كإنسانٍ يفكّر بحريّةٍ ،ويقتنع على أساس الدليل .
أخذ العبرة من براءة إبراهيم الفكرية والروحية
وتبقى لنافي هذا المجالهذه البراءة الفكرية من إبراهيم ،حيث نتمثله إنساناً يواجه العقيدة من موقع البساطة الوجدانية ،والعفوية الروحية ،التي تلتقي بالقضايا من وحي الفطرة لا من وحي التكلف والتعقيد ،ثم هذه اللهفة الحارة المنفتحة على اللهسبحانهعند اكتشافه للحقيقة والإقبال عليه بكل وجهه ،وبكل فكره وروحه وانطلاقه العملي في الحياة ،لأن توجيه الوجه لله ،لا يعنيفي مدلوله العميقهذا الموقف الساذج الذي يتطلع فيه الإنسان نحو الأفق الممتد في السماء بنظرةٍ حائرةٍ ،بل يعني انطلاقة حياة الإنسان وكيانه مع الله في ما يحمل من عقيدة ،وفي ما يرتبط به من فكر ،ويتحرك معه من خط ،وفي ما يستهدفه من أهداف ،وفي ما يعيشه من علاقات وأوضاعٍ وتطلّعات ،إنه الاندماج بالحقيقة الإلهية ،بأن تكون الحياة كلها لله ،وفي خدمته .
ولعلّ قيمة هذه الفكرة ،أننا لا نستوحي آفاقها وخطواتها العملية تجريداً ونظرياً لنعيش معها في متاهات التجريدية ،بل هي حركة الإنسانالنبيّ الذي يعيش حركة الإيمان والفكر في حياته من موقع إنسانيته البسيطة ،ليوحي بأن دور الإنسان الذي يريد أن يحقق إنسانيته ،هو أن ينعزل عن كلّ الحدود المادية الضيقة التي تشده إلى الأرض في استسلامٍ ذليل ،ويرتبط بالحقيقة المطلقة التي يحلِّق من خلالها مع الله .
مع العلامة الطباطبائي في الميزان
وهنا نقطتان ،الأولى: وهي أن العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان حاول أن يجعل من استدلال إبراهيم( ع ) على نفي ربوبية الكواكب بقوله{لا أُحِبُّ الآَفِلِينَ} بطريقةٍ أخرى ،وهذا ما ذكره بنصه .قال: «وفيه إبطال ربوبية الكوكب بعروض صفة الأفول له ،فإن الكوكب الغارب ينقطع بغروبه ممن طلع عليه ولا يستقيم تدبيرٌ كونيٌّ مع الانقطاع .
على أن الربوبية والمربوبية بارتباط حقيقي بين الرب والمربوب ،وهو يؤدي إلى حب المربوب لانجذابه التكويني إليه وتبعيته له ،ولا معنى لحب ما يفنى ويتغير عن جماله الذي كان الحب لأجله ،وما يشاهد من أن الإنسان يحب كثيراً الجمال المعجل والزينة الداثرة ،فإنما هو لاستغراقه فيه من غير أن يلتفت إلى فنائه وزواله ،فمن الواجب أن يكون الرب ثابت الوجود غير متغير الأحوال كهذه الزخارف المزوّقة التي تحيا وتموت وتثبت وتزول وتطلع وتغرب وتظهر وتخفى وتشب وتشيب وتنضر وتشين ،وهذا وجه برهاني وإن كان ربما يتخيّل أنه بيان خطابي أو شعري ،فافهم ذلك .
وعلى أي حال فهو( ع ) أبطل ربوبية الكوكب بعروض الأفول له ،إما بالتكنية عن البطلان بأنه لا يحبه لأفوله لأن المربوبية والعبودية متقومة بالحب ،فليس يسع من لا يحب شيئاً أن يعبده .وقد ورد في المروي عن الصادق( ع ): «هل الدين إلا الحب ؟»…
وإما لكون الحجة متقومة بعدم الحب ،وإنما ذكر الأفول ليوجه به عدم حبه له المنافي للربوبية ،لأن الربوبية والألوهية تلازمان المحبوبية فما لا يتعلق به الحب الغريزي الفطري لفقدانه الجمال الباقي الثابت لا يستحق الربوبية ".
ونلاحظ على ذلك ،أن التركيز على مسألة الحب كعنصر أساس في الاستدلال ،باعتبار اقتضاء الرابطة بين الرب والمربوب حب المربوب لربه لانجذابه التكويني إليه وتبعيته له ،ليس دقيقاً ،لأن قضية الحب هي قضية الأحاسيس والمشاعر التي تنفتح على المحبوب من خلال العناصر الموجودة فيه مما يحبه الإنسان كالجمال والقوة والعلم ونحو ذلك ،بحيث يتأثر الشعور به فينجذب إليه في الحالة الفعلية التي هو عليها بقطع النظر عن طبيعة الفناء والبقاء فيه .
إن ما ذكره من أن حب الإنسان للجمال المعجّلحسب تعبيرهناشىء من استغراقه فيه وعدم التفاته إلى فنائه هو خلاف الوجدان ،لأن الناس الذين يحبون بعضهم بعضاً ملتفتون إلى فناء المحبوب من خلال عروض العوارض التي تهدد حياته ومن خلال الفكرة المرتكزة في أذهانهم من شمول الفناء لكل الخلق .
إن الإنسان يتأثر بالصفات المحبوبة في الشخص المحبوب بلحاظ وجودها الفعلي الذي ينجذب إليه الإحساس من دون أن يكون للبقاء والزوال أيّ دخل فيه ،بل إننا نرى أن الحب يبقىحتى بعد فناء المحبوبوهذا ما قد نلاحظه ،في العشاق الذين بلغ بهم العشق حدّاً بحيث يصابون بالكثير من حالات الألم والحزن والمرض لموت المحبوب الذي يبقى حبه في قلوبهم .
أمّا كلام الإمام الصادق( ع ): «وهل الدين إلا الحب » ،فقد يكون المقصود به التعبير عن الدرجة التي لا بد من أن يبلغها الإيمان في الجانب الشعوري ،بحيث يتحوّل إلى حالةٍ من الحبّ لله من خلال معرفته به وانجذابه إليه ،بمعنى أن الحالة العقلية تتحول إلى حالة شعورية ،لأن ذلك هو الذي يحرّك الإنسان نحو الارتباط العملي بالدين ،لأن هناك فرقاً بين الطاعة الصادرة عن خضوعٍ ناشىءٍ من خارج الذات ،والطاعة الصادرة عن خضوع من داخل الذات .
إن المسألة لديه هي الحب الشعوري الخاص المنطلق من الحب العقلي الذي يرتكز على الاقتناع بالصفة التي تجذب إلى الحب ،لا الحب الذي يتحرك من خلال العناصر الذاتية .
ومن خلال ذلك ،يظهر أن الحجة هي الأفول الذي ينافي مقام الربوبية لا الحب ،وهذا هو الذي يؤكد ما ذكره بعضهمكما يقول صاحب الميزانأن الكلام كان تعريضاً خفياً لا برهاناً نظرياً جلياً ،يعرّض فيه بجهل قومه في عبادة الكواكب أنهم يعبدون ما يحتجب عنهم ولا يدري شيئاً من أمر عبادتهم ،وهذا هو السبب في جعله الأفول منافياً للربوبية دون البزوغ والظهور ،بل بنى عليه القول بها ،فإن من صفات الرب أن يكون ظاهراً وإن لم يكن ظهوره كظهور غيره من خلقه » .
ويرد عليه صاحب الميزان أن وضع قوله تعالى:{وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْرَهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَتِ وَالاَْرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} بين الآيات المتضمنة لحججه( ع ) أدلُّ دليل على كون حججه مأخوذة من مشهوداته الملكوتية التي هي ملاك يقينه بالله وآياته » لأن إراءة الله إبراهيم ملكوت السماوات والأرض تحركت في نطاق مشاهداته وتأملاته التي عبّر عنها بطريقته الخاصة في مسألة الانفعال بالكوكب أو الشمس أو القمر الذي جعله مبهوراً بجمالها وعظمتها ليصرخ بكل ذهول:{هَذَا رَبِّي} ثم يأتي الانفعال المضاد من خلال أفوله ،لينتهي من خلال هذه الحركة التأملية إلى الإيمان بالله ،الأمر الذي يؤكد أن مسألة الأفول كانت جزءاً من حجته على رفض الإيمان بما آمن به قومه من عبادة الكوكب الذي قيل إنه الزهرة والقمر والشمس لأنها لا تتمتع بسرّ الربوبية في وجودها .
وقد علل العلامة الطباطبائي أخذ الأفول في الحجة دون البزوغ بأن البزوغ لا يستوجب عدم الحب الذي بنى الحجة عليه بخلاف الأفول ،وهذا مبني على اعتبار عدم الحب هو الحجة وقد بينا فساده ،ولذلك فلا يرد على الزمخشري ما ذكره في تفسير الكشاف حيث قال: «فإن قلت: لم احتج عليهم بالأفول دون البزوغ وكلاهما انتقال من حالٍ إلى حال ؟قلت: الاحتجاج بالأفول أظهر لأنه انتقال مع خفاء واحتجاب » .
النقطة الثانية: إن إبراهيم( ع ) كان يعيش التأملات الفكرية والروحية التي كانت تتحرك في ذاته بما يشبه القلق الباحث عن الحقيقة ،فقد بدأ بالتعبير عن الضيق النفسي الذي أحسّ به بعد أفول الكوكب ،في براءةٍ طفولية رافضةٍ لهذه الظاهرة التي تغيب وتفقد نورها ،فلا تملك العنصر الذي تتميز به الربوبية في معناها المرتكز في ذهنه .
ثم كان الرفض الثاني لربوبية القمر الذي بهره نوره الهادىء فقال ،وهو يعيش الحيرة القوية التي يخاف منها على نفسه من الضياع إذا لم يبلغ حقيقة اليقين:{لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّآلِّينَ} وانطلق الرفض الثالث لربوبية الشمس في النتيجة النهائية الحاسمة التي تحوّل فيها القلق إلى اقتناع ببطلان ربوبية هذه الظواهر الكونية ،فلا مجال لإدخالها في فرضية الإله ،لتبقى الحقيقة الوحيدة التي تفرض نفسها على العقل والوجدان من حيث إنها فرضت نفسها على الوجود كله وهي الله الواحد الذي لا شريك له ،ولذلك قال في صرخة الوصول إلى الحقيقة:{قَالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ* إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَواتِ وَالأرْضَ حَنِيفاً} فهو وحده الذي خلق الكون كله ،ولذلك فإنهوحدهالذي لا بد من أن يتوجه الخلق إليه بالعبادة والطاعة والخضوع .
وهكذا انطلق التوحيد إبراهيمياً ،فكان{مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا}[ البقرة:135] لأنه تحرك في الوجدان من خلال المعاناة الفكرية والشعورية التي طرحت عن الإنسان كل الحواجز التي تحجزه عن اكتشاف الحقيقة من خلال الفطرة الصافية الكامنة في النفس التي توحي بالتوحيد ورفض الشرك .