/م74
{ إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين} تبرأ من شركهم وقفى على تلك البراءة ببيان عقيدته الحق وهي التوحيد الخالص فقال إني وجهت وجهي وقصدي وجعلت توجهي في عبادتي للرب الخالق الذي فطر السموات والأرض ، أي ابتدأ خلقهما بما فتق من رتق مادتهما وهي دخان ، وأكمل خلقهن أطوارا في ستة أزمان ، فهو خالق هذه الكواكب النيرات ، وخالقكم وما تصنعون منه هذه الأصنام من معدن ونبات ، وتوجيه الوجه هنا بمعنى إسلامه في قوله عز وجل:{ ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا} [ النساء:125] وقوله:{ ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن} [ لقمان:22] .وقد تقدم في تفسير الأولى ( ج 5 ) أن إسلام الوجه له تعالى عبارة عن توجه القلب ، فإن الوجه أعظم مظهر لما في النفس من الإقبال والإعراض والخشوع والسرور والكآبة وغير ذلك ، وأن المراد بإسلامه وبتوجيهه لله تعالى تركه له يتوجه إليه وحده في طلب حاجته ، وإخلاص عبوديته ، فهو وحده الرب المستحق للعبادة ، القادر على الأجر والإثابة .
ومن الشواهد على استعمال الوجه بمعنى القلب حديث « لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم »{[963]} وفي رواية قلوبكم .رواه أحمد وأصحاب السنن .ووجه يتعدى باللام وإلى كأسلم وتقدم شاهدا « أسلم » آنفا ، ولم يتكرر « وجه » في القرآن بهذا المعنى ، وإلا فاللام هنا بمعنى إلى كقوله تعالى:{ بأن ربك أوحى لها} [ الزلزلة:5] وقوله:{ لعادوا لما نهوا عنه} [ الأنعام:28] واخترع الرازي للام هنا نكتة سماها دقيقة فقال:المعنى أن توجه وجه القلب ليس إليه لأنه متعال عن الحيز والجهة بل إلى خدمته وطاعته لأجل عبوديته الخ فجعل اللام « دليلا ظاهرا » على كون المعبود متعاليا عن الحيز والجهة .وهذا تحكم مردود لا تقبله اللغة ولا يقتضيه العقل ، ولا يتفق مع ما ورد في القرآن في معنى توجيه الوجه .أما إباء اللغة له فلأن اللام لو كانت للتعليل مع حذف مضاف لكانت الآية خالية من المقصود منها بالذات وهو كون توجيه القلب بالعبادة إلى الله فاطر السموات والأرض ، إذ التعليل على ما فيه من التكلف يصدق بالتوجه إلى غيره تعالى توسلا إليه كالتوجه إلى الكوكب وغيره ، لأجل خالقه لا لأجله ، باعتقاد أنه هو الذي يقرب إليه زلفى أو يشفع عنده .وأما العقل فإنه يدرك أن توجه القلب لا ينحصر في كونه إلى الحيز والجهة المحصورة ، وأما القرآن فقد عدى إسلام الوجه بإلى في سورة لقمان وباللام في سورة النساء ، وهو بمعنى توجيهه كما تقدم آنفا .
هذا وإن التعبير بفاطر السموات والأرض هو وجه الحجة في الآية فإن ما فتن به القوم من تأثير النيرات في الأرض- إن صح- لم يعد أن يكون خاصية لبعض أجرام السماء وهي لم توجد نفسها ولا صفاتها وخواصها ، فالواجب أن ينظر في أمرها من حيث هي جزء أو أجزاء من مجموع العالم ، وحينئذ يراها الناظر المتفكر خاضعة لتدبير من فطر العالم الكبير التي هي بعضه ، ويعلم أنه هو الحقيق بالعبادة من دونها ، لأنه هو الرب الحق المدبر لها ولغيرها .وإنما يتجلى الاستدلال على وحدانية الربوبية والإلهية بالنظر في جملة العالم وكونه لا بد أن يكون له خالق مدبر واحد ، إذ لا يمكن أن يستقيم نظام المتعدد إلا إذا كان له جهة واحدة كما بيناه في غير هذا الموضع وسيعاد أن شاء الله تعالى{ لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} [ الأنبياء:22] وأما الاستدلال بأجزاء الكون فيتولد منه شبهات ومشكلات كثيرة .
والحنيف صفة من الحنف وهو بالتحريك الميل عن الضلال والعوج إلى الاستقامة ، وضده الجنف بالجيم .فقوله حنيفا حال أي وجهت وجهي له حال كوني مائلا عن معبوداتكم الباطلة وعن غيرها ، فتوجهي وإسلامي خالص له لا يشوبه شرك ولا رياء ، وإما أنا من القوم المشركين به الذين يتوجهون إلى غيره من المخلوقات ، كالكواكب أو الملائكة أو الملوك والصالحين ، أو ما يتخذ لهم من الأصنام والتماثيل .
تبرأ أولا من شركهم أو شركائهم ثم تبرأ منهم أنفسهم{ قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله} [ الممتحنة:4] روى ابن جرير عن ابن زيد أن قوم إبراهيم قالوا حين قال إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض:ما جئت بشيء ونحن نعبده ونتوجهه .فرد عليهم بأنه حنيف أي مخلص له لا يشرك به كما يشركون اه بالمعنى .
/خ79