أبو الأنبياء
بعد أن بين الله تعالى هداية إبراهيم عليه السلام والتفكير المستقيم الذي هداه الى ربه وأن الله رفعه بذلك الإدراك المستقيم ، ليكون هاديا مرشدا ،ذكر الله سبحانه وتعالى ذريته من النبيين الهداة المهدين من بني إسرائيل ومن العرب ، واشار سبحانه إلى من سبقه من النبيين ، فذكر نوحا ، وهو من قبله .
لم يستطع إبراهيم المقام في قومه بعد أن بلغ ما بلغ من الإدراك ، وبعد أن اتسعت الهوة بينه وبينهم عندما جعل أصنامهم جذاذا وألقوه في النار كما قال تعالى:( وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ 51إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ 52قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ 53قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ 54قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ 55قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ 56وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ 57فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ 58قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ 59قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ 60قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ 61قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ 62قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ 63فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ 64ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاء يَنطِقُونَ 65قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ 66أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ 67قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ 68قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ 69وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ 70 ) ( الانبياء ) .
رأى إبراهيم ذلك ، وأنه لا مقام له بينهم ولا قبل له بتحويلهم فهاجر واعتزلهم وأخذ يطوف في الآفاق فذهب إلى بلاد الشام ، والى مصر وأخذ رسول التوحيد يبث التوحيد في كل ركن ، ولا يصاحبه الا امرأته ومعه ابن أخيه لوط عليهما السلام .
عوضه الله تعالى عن هذا الانفراد في هذا التطواف أن وهب له إسحاق ويعقوب ، ومن جاء من ذريتهما ، وأن جعل من ذريته إسماعيل ويونس ولوطا .
وإذا كان قد عاش مفردا داعيا الله تعالى بين الوثنيين في الأرض فقد عوضه عن هذا الانفراد بأن جعل في ذريته النبوة والحكمة ، وقد قال تعالى فور اعتزاله لقومه ، وهجرته عنهم:( فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا 49 ) ( مريم ) وان هذه المهمة لم تكن فور اعتزالهم بل بعد أن جاهد داعيا إلى الوحدانية في وسط المدينة حينما كان في بلاد المشرق أن بلغ الكبر ، فقد قال تعالى حكاية عنه:( الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق ان ربي لسميع الدعاء 39 ) ( إبراهيم ) .
ولقد ذكر سبحانه وتعالى فيمن وهبهم له من الأنبياء خمسة عشر نبيا وذكر نوحا من قبله لأنه أبو الخليقة بعد آدم عليه السلام فهو الأب الثاني .
ولقد ذكر الله تعالى طائفة من أنبياء الله تعالى من ذرية إبراهيم بلغ عددها كما ذكرنا خمسة عشر نبيا ، كان لكل منهم مزية خصه الله تعالى بها ، وذكر رسالة نوح من قبل .
وان الأنبياء الذين ذكرهم القرآن الكريم في هذه الآيات من ذرية إبراهيم أولا:إسحاق ويعقوب ، لأن إسحاق أول أنبياء بني إسرائيل ، وهو الأب الأول لهم ، ويعقوب الذي يسمى إسرائيل وينسبون إليه ، وجاء الرسل والأنبياء من بعده ، وقال تعالى عنهما ،
( كلا هدينا ) أي أعطى الله تعالى كل واحد منهما هداية قائمة بذاتها لأن كل واحد كان نبيا مبعوثا وتلك مكرمة لإبراهيم أن جعل ابنه وحفيده نبيين كل له هداية وبعثة .
بعد ذلك ذكر الله تعالى ذريته من غير ترتيب زمني ، ولا ترتيب في المكانة ، وتلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض ، ومن غير تفرقة بين أولي العزم من الرسل ، وغيرهم ، بل ذكرهم القرآن فيما يبدو مجموعات ظاهرة تجمع كل مجموعة منها صفة بارزة فيها .
المجموعة الأولى:بعد ذكر نوح وإسحاق ويعقوب الذين كان لكل واحد منهم هداية بعثه الله تعالى بها ، وان تلاقت الهدايات كلها ، لأنها من الله تعالى موحد الشرائع وهم:داود وسليمان ، وأيوب ويوسف ، وموسى وهارون وهذه المجموعة تمتاز بالصبر ، وهو واضح في حياة كل نبي منهم فداود وسليمان كانا خليفتين في الأرض ، ولهما ملك شرقي وغربي ، والملك العادل يحتاج إلى صبر حكيم ، الامتناع عن الظلم ، وهو شهوة الملوك وداؤهم وإن الصبر على نعمة يحتاج الى أفق أوسع من الصبر في الشديدة فتحرى الأحكام وتعرف أسبابها وغاياتها يحتاج إلى عقل أريب{[1031]} مدرك ونفس هادية مؤمنة .
وكان داود وسليمان من رجال الحرب الذين لاقوا باسها وشدتها والصبر في البأس أمر واضح بين ، وأيوب عليه السلام صبر على الضراء إذ نادى ربه رب اني مسنى الضر وأنت أرحم الراحمين ، وقد ضرب به المثل في الصبر على الضراء لكل من يصيبه ضر حتى لقد قالوا في أعلى درجات الصبر ، إنه صبر أيوب ، فقد صبر من غير أنين ولا شكوى مع الرحمة والمحبة لمن عاشره في ضرائه .
ويوسف عليه السلام كان عبدا صابرا صبر على كيد إخوته ، وإظهارهم البغض والعداوة ثم صبر على نعمة السلطان بعد ذلك ، فاجتمع له نوعان من الصبر ، صبر على الباساء والشديدة حتى إنه ليسترق وصبر عن هوى الشيطان وكف لشهوة النفس ، وإنه رأى برهان ربه في ادق المواقف انفعالا نفسيا ، وتعرض لمهاوى الشهوات ، (. . .ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء . . .24 ) ( يوسف ) وصبر على السجن مع الإحساس بالبراءة ، وصبر على كيد النساء مع الكتمان من غير إفحاش ، ولا تفحش ، ابتلاه الله بترغيب النساء ، فتقبل السجن عن أن يكون تحت إغرائهن:( قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني اليه والا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين 33 ) ( يوسف ) .
وهكذا نجد المغالبة بين الإغراء الجارف ، والصبر والعزيمة ، وضبط النفس من الشاب القوي الجميل ، ولقد هيأ الله تعالى من بعد ذلك لهذا الشاب القوى أن يجلس على عرش مصر ، فيكون الصبر على العدل ، وتنظيم سياسة الاقتصاد ومدافعة أهواء الناس ، مع الصبر على البعد عن الأقارب ، وعن أبيه الصابر الشفيق الرفيق ، ثم يكون بعد ذلك الصبر الكريم عن حب الانتقام ، والعفو الذي تطيب به النفوس فيقول لإخوته:( قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين 92 )( يوسف ) .
وموسى وهارون ، وكانا من عباد الله الصابرين صبرا على أذى فرعون لقومهما كان يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم وصبر موسى كليم الله الذي عاش في بيت فرعون عدو قومه ، فصبر على مجابهة أهله حتى اجتذب بصبره وتحمله من آمن من آل فرعون وكان على رأسهم امرأته الطيبة الطاهرة .
وصبر كليم الله تعالى على بني إسرائيل بعد أن خرج من ارض فرعون صبر على فساد قلوبهم ، فكان يعالجه بصبر المؤمن التقي الهادئ وصبر على كفرهم وعاود دعوتهم إلى الإيمان وصبر عندما اتخذوا العجل إلها ، وصبر عليهم وهم يقولون اجعل لنا إلها كما لهم آلهة .
دعاهم إلى القتال ليدخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله تعالى أن يدخلوها فقالوا له:اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون .
ثم كان القتال بهؤلاء المستخدمين الضعفاء في أنفسهم الأقوياء في ابدانهم تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ، وإني أحسب أن صبره عليهم ، كان كصبر أيوب ، وإن اختلف الشكلان والنوعان ولكن كليهما صبر .
وختم سبحانه الآية بقوله:( وكذلك نجزي المحسنين ) أي كهذا الجزاء من الهدى نجزي المحسنين وحيث كان الإتقان والإحسان كان الصبر .