وكانت كرامة الله لإبراهيم أن جعل النبوّة في ذريته ،من خلال الروح الإيمانية التي أثارها في بنيه ،ما جعل الرسالة وصيّةً متنقلةً من الآباء إلى الأولاد الذين عاشوا الإسلام فكراً وروحاً وممارسةً وحركة حياة ،في ما أراده الله سبحانه لعباده أن يُسلِموا أمرهم له في كل شيء ،فهو المرجع في كل مسألةٍ ،وهو الملاذ في كل مشكلةٍ ..وهذا هو ما نستوحيه من قوله تعالى:{وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَبَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ* أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَآئِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [ البقرة:132133] وهكذا كانت هداية الله لهذا الجيل من الأنبياء ،بما فتح الله قلوبهم لرسالته ،وأعدّهم لدعوته ،وملأ قلوبهم بالحكمة ،وحياتهم بالتقوى ،فأمكنهممن خلال ذلكأن يكونوا الدعاة الهداة ،المبشرين المنذرين الذين تتحول حياتهم إلى رسالة ورسالتهم إلى حياةٍ ،فيتجاوزون حدود الزمن ،فلا تتحدد آفاقهم بحجم اللحظات التي عاشوها في عمرهم ،بل تمتد لتكون تاريخاً في أعمار الآخرين ،لأنَّ رسالتهم لا تمثل فكرهم وتجربتهم المحدودة ،بل تمثل الحقيقة التي يحملها الله إلى الناس كلهم في كل زمان ومكان ،لتكون الصراط المستقيم في جميع أمورهم وقضاياهم ،فلا يبقئ هناك مجالٌ لاعوجاجٍ في الفكر ،ولا انحرافٍ في الطريق .
وقد اختلفت أجواء هؤلاء الأنبياء باختلاف حاجات محيطهم التي يعيشها ،روحياً وعملياً ،{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ} وكان منهم نوحالنبيّ ،الذي ذكره الله كنموذجٍ سبق الجيل الإبراهيميّ من الأنبياء ،باعتباره النبيّ الأوّل في سلسلة النبوّات المتحركة في خطّ الدعوة ،فكان المثال الرائع للإنسانالرسول الذي تتجدد قوته الداخلية ،كلما تجددت التحديات التي يلقاها من الكافرين بدعوته ،فلا ينهار ولا يتزلزل ولا يتنازل ،بل يندفع ليكرّر التجربة ويؤكّد الرسالة كموقف وحيدٍ للحياة ،ويسخر منه الآخرون ،فلا يزيده ذلك إلاّ قوّةً في الروح والموقف ،فيسخر منهم بشجاعة الإنسان الذي يدرك أن الله معه .
وجاء الطوفان ليشكل نهاية الجيل الكافر ،ليبدأ نوح الدعوة مع جيلٍ جديدٍ إلى الإيمان بالله ..لتبدأ الحياة بعيداً عن الحواجز الضاغطة من قبل الكافرين المعاندين ..
{وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ} الذين تميزت أدوارهم بالسلطة التي يملكونها ،والحكم الذي مارسوه ،بالإضافة إلى النبوّة ..فقد جعل الله داود خليفة في الأرض ليحكم بين الناس ،وأعطى سليمان رغبته في ملك لا ينبغي لأحدٍ من بعده ،ووهب أيوب ،قبل أن يبتليه ،السطوة الكبيرة في قومهكما يروىوأعطى يوسف الملك في مصر ،أمّا موسى وهارون ،فقد مارسا الحكم في بني إسرائيل ..وهكذا كانت حياة هؤلاء مظهراً للقوة يريد الله من خلالها الإيحاء بأن النبوّة لا تعني الضعف لانطلاقها من أساليب اللين والحكمة وحركة السلام في الحياة .