وتلك هي الحجة التي ألهمها الله لنبيّه إبراهيم{وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيْنَاهَآ إِبْراهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} من أجل أن يثير في أنفسهم القلق الروحي الذي يدفعهم إلى البحث عن الحقيقة ليحصلوا على الأمن من خلال المعرفة المرتكزة على أساس من وعيٍ وفكر .وهكذا يريد الله لرسله أن يرتفعوا في درجات المعرفة والإيمان والمنزلة ،في ما يحققه لهم من فرص ،ويمنحه لهم من امتيازات ،وفي ما يعيشونه من مواقف ،ويحيطهم به من رعايته ورحمته ولطفه ،وفي ما يقرّبهم إليه من مستوى النبوّة المتحركة في خط الحياة ،لتجعلها قريبة إلى الله بالفكر والإيمان والعمل .
{نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ} وذلك هو فضل الله يؤتيه من يشاء فيرفع درجات من يشاء من عباده ،{إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ} تبعاً للحكمة فيما يريده للخلق من رفعة ،ويهيّئء لهم من منزلة ،{عَلِيمٌ} وما يعلمه مما يصلح أمورهم في جميع مجالات الحياة .وبذلك اصطفى من اصطفى من عباده ليكونوا الأنبياء الذين يحملون رسالته إلى الناس ،بعد أن اطلع على صفاء أفكارهم ،وعمق روحيتهم ،وسعة آفاقهم ،وطهارة قلوبهم وسلامة مواقفهم ،لأن قضية الاختيار لدى الله لا تمثل امتيازاً ومنحةً للأنبياء ،بل تمثّل المسؤولية في نطاق الحكمة ،على أساسٍ من الحق الذي أقام عليه الخلق وبنى عليه الحياة .
وهنا قد يتساءل الإنسان: هل الخوف يمثل الحجة والدليل في ما أرادوه أو أراده إبراهيم( ع ) ؟ونجيب: إن الخوف حالةٌ وجدانيةٌ انفعالية لا تحمل في داخلها فكراً معيّناً ،ولكنها تحرك الفكر ،من خلال ما تثيره في النفس من الشعور بالحاجة إلى الأمن مما يخاف منه ،الأمر الذي يحرّك في الإنسان الإحساس بالمسؤولية ويحمله على ملاحقة الفكرة التي توحي بالخوف ،بحثاً عن الأمن الذي ينشده ،وبذلك كان الكفار يحاولون تخويف إبراهيم( ع ) للضغط عليه نفسياً ومنعه من التمرد على الأصنام ،بينما كان إبراهيم يدفعهم إلى مواجهة المسألة بفكرٍ مسؤول يحمل لهم الإيمان الذي يحقق لهم الأمن والسلام .وفي ضوء ذلك كان أسلوب التخويف حثّاً على التحرك باتجاه الوصول إلى الدليل ،وليس هو الدليل .
وترشدنا هذه الآيات إلى مواجهة حملة التخويف والتهويل التي يثيرها المستكبرون في إعلامهم ضد المؤمنين الرافضين للأوضاع الاستكبارية من أجل إسقاط مواقفهم ،وهزيمة نفسياتهم ،وذلك من خلال تخويفهم بالقوة الضخمة التي يملكها الاستكبار في مواقعه من جهة ،والاستهانة بالله في الواقع الإيماني الذي يعيشه المؤمنون من جهة أخرى .
إن على المؤمنين أن يقفوا موقف ابراهيم أمام الكفار من قومه في ثبات العقيدة وأصالتها والإحساس بالقوة والأمن من خلال الارتباط بالله ،فهو الذي يملك الأمر كله ويوحي للإنسان بكل عناصر القوة التي يمدها بأسرار الغيب في صلابة الموقف وأصالة الإنسانية ،فإذا أحسّ بالضعف في موقع ،فإنه سوف يواجه القوة في إيحاءات الإيمان وحركة التوفيق الإلهي في موقع آخر ،الأمر الذي يتحول فيه الارتباط بالله إلى عامل إيحاء بالقوة ،كما حدثنا الله به عن موقف النبي( ص ) في ليلة الهجرة:{إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [ التوبة:40] .
وهذا ما نحتاجه في تأصيل عملية التربية الإسلامية لملء نفس الإنسان المؤمن ثقة بالله وتوكّلاً عليه ،وإحساساً عميقاً بالأمن الروحي الذي لا يزحف الخوف إليه ،لأن ذلك ما يركّز بناء الشخصية الإسلامية على الإحساس بالقوّة في ساحة التحدّي والصراع .