في الآية التّالية جواب يدلي به إِبراهيم على سؤال كان هو قد ألقاه في الآية السابقة ( وهذا أسلوب من أساليب الاستدلال العلمي ،فقد يسأل المتكلم سؤالا عن لسان المخاطب ثمّ يبادر إِلى الإِجابة عليه مباشرة كدليل على أن الجواب من الوضوح بحيث ينبغي أن يعرفه كل شخص ) ،يقول: إِنّ المؤمنين الذين لم يمزجوا إِيمانهم بظلم ،هم الآمنون وهم المهتدون ( الذين آمنوا ولم يلبسوا إِيمانهم بظلم أُولئك لهم الأمن وهم مهتدون ) .
ثمّة رواية عن أمير المؤمنين علي( عليه السلام ) تؤيد كون هذه الآية استكمالا لحوار إِبراهيم مع عبدة الأصنام{[1225]} .
بعض المفسّرين يرى أن من المحتمل أن تكون هذه الآية بياناً إِلهياً ،وليست مقولة قالها إِبراهيم ،إِلاّ أن ما ذكرناهفضلا عن تأييد الرواية المذكورة لهأكثر انسجاما مع ترتيب الآيات ووضعها ،أمّا القول بأنّ هذه الآية لسان حال عبدة الأصنام ،وإنّهم قالوها بعد تيقظهم على اثر سماع أدلة إِبراهيم ،فأمر بعيد الاحتمال جدّاً .
ما معنى «الظلم » هنا ؟
يرى معظم المفسّرين أنّ معنى «الظلم » هنا هو «الشرك » .وأنّ الآية ( 12 ) من سورة لقمان: ( إِنّ الشّرك لظلم عظيم ){[1226]} دليل على ذلك .
وفي رواية منقولة عن ابن عباس أنّه عند نزول هذه الآية شقّ على الناس فقالوا: يا رسول الله وأينا لم يظلم نفسه ؟( أي أنّ الآية تشملهم جميعاً ) ،فقال رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ): «إِنّه ليس الذي تعنون ،ألم تسمعوا إِلى ما قال العبد الصالح: (...يا بني لا تشرك بالله إِنّ الشرك لظلم عظيم ){[1227]} .
غير أنّ لآيات القرآن معاني متعددة في كثير من الحالات بحيث يمكن أن يكون أحدها أوسع وأشمل ،وهذا الاحتمال جائز في هذه الآية أيضاً ،فيحتمل أن يكون «الأمن » عاماً يشمل الأمن من عقاب الله ،والأمن من حوادث المجتمع المؤلمة ،والأمن من الحروب والمفاسد ،والجرائم وحتى الأمن النفسي لا يتحقق إِلاّ عندما يسود المجتمع مبدآن معاً: الإِيمان والعدالة الاجتماعية ،فإِذا ما تزلزلت قاعدة الإِيمان بالله ،وزال الشعور بالمسؤولية أمام الله ،وحل الظلم محل العدالة الاجتماعية ،فلن يكون في مثل هذا المجتمع أمان .لذلك فعلى الرغم من المساعي والجهود التي يبذلها فريق من العلماء في العالم للحيلولة دون انعدام الأمن ،فإِنّ الهوة بين العالم وحالة الأمن والاستقرار تتسع يوماً بعد يوم إِنّ السبب هو ما جاء في الآية المذكورة: تزلزل أركان الإِيمان ،وقيام الظلم مقام العدالة .
إِنّ تأثير الإِيمان في الاطمئنان النفسي والهدوء الروحي لا يمكن إِنكاره ،كما لا تخفى على أحد حالات تبكيت الضمير والقلق النفسي بسبب ارتكاب المظالم .
روي عن الإِمام الصّادق( عليه السلام ) في قوله تعالى: ( الذين آمنوا ولم يلبسوا إِيمانهم بظلم ) قال: «بما جاء به محمّد( صلى الله عليه وآله وسلم ) من الولاية ،ولم يخلطوها بولاية فلان وفلان »{[1228]} .
هذا التّفسير يستهدففي الحقيقةبيان روح الموضوع في الآية الشريفة ،إِذ أنّ الكلام يدور حول ولاية الله وعدم خلطها بولاية غيره ،ولما كانت ولاية أمير المؤمنين علي( عليه السلام ) بموجب ( إِنّما وليكم الله ورسوله ...) قبساً من ولاية الله ورسوله( صلى الله عليه وآله وسلم ) والولايات غير المعينة من قبل الله ليست كذلك ،فإِنّ هذه الآية من خلال نظرة واسعة تشمل الجميع ،وعليه ليس المقصود من هذا الحديث أن ينحصر معنى الآية في هذا فقط ،بل إِنّ هذا التّفسير قبس من مفهوم الآية الأصلي .
لذلك نجد في حديث آخر عن الإِمام الصّادق( عليه السلام ) أنّه جعل هذه الآية تشمل الخوارج الذين خرجوا من ولاية الله ودخلوا في ولاية الشيطان{[1229]} .
الآية التّالية فيها إِشارة إِجمالية لما مضى من بحث بشأن التوحيد ومجابهة الشرك كما جاء في لسان إِبراهيم: فتقول:( وتلك حجّتنا آتيناها إِبراهيم على قومه ) .
صحيح أنّ تلك الاستدلالات كانت منطقية توصّل إِليها إِبراهيم بقوّة العقل والإِلهام الفطري غير أن قوة العقل والإِلهام الفطري من الله ،لذلك فإِنّ الله ينسبها إِلى نفسه ويوقعها في القلوب المستعدة كقلب إِبراهيم( عليه السلام ) .
ومن الجدير بالملاحظة أنّ «تلك » اسم إِشارة للبعيد ،غير أنّها تستعمل أحياناً للقريب للدلالة على أهمية المشار إِليه وعلو مقامه ،مثل ذلك ما جاء في أوّل سورة البقرة: ( ذلك الكتاب لا ريب فيه ) .
ثمّ تقول الآية: ( نرفع درجات من نشاء ){[1230]} ولكيلا يخامر بعضهم الشك في أنّ الله يحابي في إِعطاء الدرجات لمن يشاء ،تقول: إِن الله متصف بالحكمة وبالعلم ،فلا يمكن أن يرفع درجة من لا يستحق ذلك: ( إِنّ ربّكم حكيم عليم ) .