خبر تعالى أنه وهب لإبراهيم إسحاق ، بعد أن طعن في السن ، وأيس هو وامرأته "سارة "من الولد ، فجاءته الملائكة وهم ذاهبون إلى قوم لوط ، فبشروهما بإسحاق ، فتعجبت المرأة من ذلك ، وقالت:( قالت يا ويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد ) [ هود:72 ، 73] ، وبشروه مع وجوده بنبوته ، وبأن له نسلا وعقبا ، كما قال:( وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين ) [ الصافات:112] ، وهذا أكمل في البشارة ، وأعظم في النعمة ، وقال:( فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ) [ هود:71] أي:ويولد لهذا المولود ولد في حياتكما ، فتقر أعينكما به كما قرت بوالده ، فإن الفرح بولد الولد شديد لبقاء النسل والعقب ، ولما كان ولد الشيخ والشيخة قد يتوهم أنه لا يعقب لضعفه ، وقعت البشارة به وبولده باسم "يعقوب "، الذي فيه اشتقاق العقب والذرية ، وكان هذا مجازاة لإبراهيم ، - عليه السلام - ، حين اعتزل قومه وتركهم ، ونزح عنهم وهاجر من بلادهم ذاهبا إلى عبادة الله في الأرض ، فعوضه الله ، عز وجل ، عن قومه وعشيرته بأولاد صالحين من صلبه على دينه ، لتقر بهم عينه ، كما قال [ تعالى] ( فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا ) [ مريم:49] ، وقال هاهنا:( ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا )
وقوله:( ونوحا هدينا من قبل ) أي:من قبله ، هديناه كما هديناه ، ووهبنا له ذرية صالحة ، وكل منهما له خصوصية عظيمة ، أما نوح ، - عليه السلام - ، فإن الله تعالى لما أغرق أهل الأرض إلا من آمن به - وهم الذين صحبوه في السفينة - جعل الله ذريته هم الباقين ، فالناس كلهم من ذرية نوح ، وكذلك الخليل إبراهيم ، - عليه السلام - ، لم يبعث الله ، عز وجل ، بعده نبيا إلا من ذريته ، كما قال تعالى:( وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب ) الآية [ العنكبوت:27] ، وقال تعالى:( ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب ) [ الحديد:26] ، وقال تعالى:( أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا ) [ مريم:58] .
وقوله في هذه الآية الكريمة:( ومن ذريته ) أي:وهدينا من ذريته ( داود وسليمان ) الآية ، وعود الضمير إلى "نوح "; لأنه أقرب المذكورين ، ظاهر . وهو اختيار ابن جرير ، ولا إشكال عليه . وعوده إلى "إبراهيم "; لأنه الذي سبق الكلام من أجله حسن ، لكن يشكل على ذلك "لوط "، فإنه ليس من ذرية "إبراهيم "، بل هو ابن أخيه مادان بن آزر ; اللهم إلا أن يقال:إنه دخل في الذرية تغليبا ، كما في قوله تعالى:( أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون ) [ البقرة:133] فإسماعيل عمه ، ودخل في آبائه تغليبا .
[ وكما قال في قوله:( فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس ) [ الحجر:30 ، 31] فدخل إبليس في أمر الملائكة بالسجود ، وذم على المخالفة ; لأنه كان قد تشبه بهم ، فعومل معاملتهم ، ودخل معهم تغليبا ، وكان من الجن وطبيعتهم النار والملائكة من النور]
وفي ذكر "عيسى "، - عليه السلام - ، في ذرية "إبراهيم "أو "نوح "، على القول الآخر دلالة على دخول ولد البنات في ذرية الرجال ; لأن "عيسى "، - عليه السلام - ، إنما ينسب إلى "إبراهيم "، - عليه السلام - ، بأمه "مريم "- عليها السلام - ، فإنه لا أب له .
قال ابن أبي حاتم:حدثنا سهل بن يحيى العسكري ، حدثنا عبد الرحمن بن صالح ، حدثنا علي بن عابس ، عن عبد الله بن عطاء المكي ، عن أبي حرب بن أبي الأسود قال:أرسل الحجاج إلى يحيى بن يعمر فقال:بلغني أنك تزعم أن الحسن والحسين من ذرية النبي - صلى الله عليه وسلم - ، تجده في كتاب الله ، وقد قرأته من أوله إلى آخره فلم أجده؟ قال:أليس تقرأ سورة الأنعام:( ومن ذريته داود وسليمان ) حتى بلغ ( ويحيى وعيسى ) ؟ قال:بلى ، قال:أليس عيسى من ذرية إبراهيم ، وليس له أب؟ قال:صدقت .
فلهذا إذا أوصى الرجل لذريته ، أو وقف على ذريته أو وهبهم ، دخل أولاد البنات فيهم ، فأما إذا أعطى الرجل بنيه أو وقف عليهم ، فإنه يختص بذلك بنوه لصلبه وبنو بنيه ، واحتجوا بقول الشاعر العربي:
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأجانب
وقال آخرون:ويدخل بنو البنات فيه أيضا ، لما ثبت في صحيح البخاري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال للحسن بن علي:"إن ابني هذا سيد ، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين "فسماه ابنا ، فدل على دخوله في الأبناء .
وقال آخرون:هذا تجوز .