كان هؤلاء فيهم الصالحون ومن هم دون ذلك ، وكلما تقادم العهد وطال بينهم وبين موسى – عليه السلام – قست قلوب الأكثرين ؛ ولذا كان الأكثرون من الأخلاف فيهم الشر أوضح ، وقال تعالى في ذلك:{ فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه} .
إن الذين سبقوهم كان منهم الصالحون ، ومنهم دون ذلك ، أما الذين جاءوا من بعدهم فالشر قد غلب فيهم وظهر على سطح جماعتهم ، واختفى الخير ، وإن كان موجودا فهو في كن غير ظاهر ، وصار جوهم العام فاسدا ، والعبرة في فساد المجتمعات أن يكون الفساد هو الظاهر ، والحق مختفيا وإن كان موجودا وقائما ، ولكنه مغلوب .
{ فخلف من بعدهم خلف} – الخلف بالسكون العقب الذي لا خير فيه ، ومن ذلك قوله تعالى:{ فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا ( 59 )} ( مريم ) .
وقد قال الله تعالى فيهم أمورا تثبت وهن اعتقادهم وفساد أعمالهم:
ذكر أولا أنهم ورثوا الكتاب أي جاءهم علم الكتاب ، وهو التوراة ، بالوراثة لا بالتلقي ، فلم يفتحوا له صدورهم ولكن جاء إليهم من غير أن يتدارسوه ويتقبلوه ، والشيء الموروث الذي لا يقوم عليه وارثه يكون حجة عليه ، ولا ينتفع به .
وذكر ثانيا نظرهم إلى الكتاب ونظرهم إلى الدنيا وعرضها ، إذ ينظرون إليه على الغرض المقصود ، والمطلب المنشود ؛ ولذا قال سبحانه عنهم:{ يأخذون عرض هذا الأدنى} – أي يأخذون عرض هذا العيش الأدنى وهو أدنى معيشة في الحياة ، أي يطلبون أدنى ما في الحياة من متاع ، ويطلبون المتاع الأدنى وهو الحرام ، ويستمرئونه فيأكلون السحت والرشوة والربا ويتناولون الحياة في صورتها المحرمة ، ويحسبون أن الاستغفار يمحو ما فيها من عصيان ، ولا يتوبون توبة نصوحا ، إذ إن من أركان التوبة النصوح ) ألا يعود إلى الذنب الذي اقترفه ، ولكنهم يعودون ؛ ولذا يقول سبحانه:{ وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه} ، وهكذا يتوالى أخذ الآثام والاستغفار عنها ، ولا توبة ولا إقلاع من قلوبهم .
وإن التعبير عن متع الحياة التي يأخذونها بقوله تعالت كلماته:{ يأخذون عرض هذا الأدنى} ، والأدنى هو مذكر دنيا ، أو دنيا مؤنث أدنى ، والعرض هو الأموال التي ليست دراهم ولا دنانير ، ولكنها أهون من ذلك فهم يتخذون عرض الأدنى من الأموال ، إما لضآلتها وإما لخبثها وخبث كسبها كالميسر ، والربا والرشوة والسرقة . يفعلون ذلك ويقولون:{ سيغفر لنا} ، وكأنهم متأكدون من ذلك من غير توبة ولا استغفار . ويتوالى ذلك منهم ، كما حدث في عصور ضعف الإيمان ، إذ يقولون:إن الذنوب تغفر ولو أصروا عليها .
ولقد روى في ذلك عن معاذ بن جبل أنه قال:( يبلى القرآن في صدور أقوام كما يبلى الثوب ، يقرأونه لا يجدون له شهوة ولا لذة . يلبسون جلود الضان على قلوب الذئاب ، أعمالهم طمع لا يخالطه خوف ، إن قصروا قالوا سنبلغ ، وإن أساءوا قالوا سيغفر لنا ، إنا لا نشرك بالله شيئا ) ( 1 ){[1132]} .
وهكذا تكون الحال ، إذا ضعفت القلوب والهمم وضعف الإيمان ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، ينسون المواثيق التي أخذت عليهم ؛ ولذا يوبخهم القرآن الكريم .
وإن كل المحرمات هي العرض الأدنى في هذه الحياة ؛ لأن الله ما حرمها إلا لخبثها ، ولأنها أدنى طرق الكسب ، فالكسب الطيب يكون من كارم الرجال ، ومن العرض الطيب ، وليس الأدنى .
وقد بين الله تعالى أنهم كان في نفوسهم خبث ، وطلبوا خبث الكسب والأدنى في الحياة مع أنهم أخذت عليهم المواثيق بأن لا يقولوا على الله إلا الحق ؛ ولذا قال تعالى:{ ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه} .
الاستفهام لإنكار بمعنى النفي والتوبيخ ، وقد دخل اللاستفهام على المنفي ب ( لم ) ونفى النفي إثبات ، فالمعنى قد أخذ عليهم ميثاق الكتاب ، وهذه الصيغة فيها تأكيد لأخذ الميثاق بإقرارهم كأنهم سئلوا ذلك ، وأجابوا بالإيجاب ، ولأنه يتضمن استنكار وقوعهم في مخالفة الكتاب وترك الأخذ بميثاقه ، أي أحكامه المؤكدة الموثقة عليهم التي توجب الطاعة{ أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه} أي فحصوه وعلموه وأدركوا مغازيه وما يرمي إليه ، ويدعوهم فيه ، فما فعلوا ذلك عن جهالة بل قد قدمت لهم أسباب العلم كاملة ، وإذا كانوا قد أهملوا الأخذ بها بعد بينة تجعلهم يحملون التبعة كاملة غير منقوصة .
ويلاحظ هنا بعض عبارات تشير إلى حقائق ثابتة:
أولها – أن الميثاق الذي أخذ عليهم ألا يقولوا على الله إلا الحق مع أن ما فسقوا به عن أمر ربهم أمور عملية ، وخلاصتها أنهم يأخذون بالعرض الذي هو أدنى وهو عمل لا قول ، ونقول في الإجابة عن ذلك:
أولا – أنه ساد فيهم الكذب على الله والادعاء عليه كقولهم:{. . . . . . . . نحن أبناء الله وأحباؤه . . . . . . . . . . . . . . ( 17 )} ( المائدة ) ، وذلك بلا ريب غير الحق ، قالوا على الله تعالى كذبا وافتراء عليه ، فخالفوا الميثاق الذي أخذ عليهم بألا يقولوا على الله إلا الحق .
وثانيا – أن فعل الباطل يسبقه قول باطل يحسنه ، فالنفس المنحرفة يبتدئ انحرافها في الكفر ، فيدفع إلى القول الباطل يزين الفعل الباطل ، والذين يغيرون الشرائع يبتدئون بتزيين مخالفتها وتسهيلها فيقولون أولا على الله غير الحق ، ثم يفعلون الباطل المنهي عنه ، فالقول ذريعة العمل .
ثانيها – أن العصاة دائما يغرهم الغرور ، فيغلب عليهم الطمع من غير عمل على الخوف الذي يدفع إلى العمل ، فهؤلاء بنو إسرائيل طمعوا في الله دائما حاسبين أنه لا يعذبهم وأهملوا أمره ونهيه ، وكانوا مثلا للفاسدين ، فكان من التربية للنفس المؤمنة أن تغلب الخوف من العذاب ، على رجاء الثواب .
هؤلاء اختاروا الدنيا ، وأخذوا بأدنى ما فيها ، وهي خبائثها ومحرماتها ، فكانوا أشد لهجة من غيرهم ، بل من بعض الذين لم ينزل عليهم كتاب سماوي به مواثيق أخذت عليهم وتدارسوه .
ونسوا الآخرة ، وما فيها من نعيم مقيم لمن أطاع ، وعذاب أليم لمن ضل وغوى ، وقد ذكر الله تعالى بها في مقام نسيانها فقال تعالى:{ والدار الآخرة خير للذين يتقون} ، أي أنها في أعلى درجات الخير للذين يتقون الله وامتلأت قلوبهم بذكره ، فأعرضوا عما نهى عنه ، وطلبوا ما أمرهم به .
وخاطب الله تعالى بني إسرائيل بما يدل على أن غوايتهم وأهواءهم أفسدت عقولهم ، فصاروا لا يدركون ، فقال تعالى:{ أفلا تعقلون} الفاء هنا لترتيب إنكار أن يعقلوا على ما يفعلون ، وأخرت عن همزة الاستفهام ؛ لأن الاستفهام له الصدارة بحكم تنسيق' القول العربي ، والمعنى فأنتم لا تعقلون ؛ لأن الاستفهام إنكاري توبيخي ، فهو تأكيد لحضهم على التفكير ، وتوبيخ على عدم التفكير في عواقب أمورهم ، وإن العذاب يستقبلهم بسوء ما يفعلون .
هذا شأن العصاة منهم ، وهم الأكثرون ؛ إذ فعلوا الشر ، ولم يستنكر أكثرهم ، ولقد ذكر من بعد ذلك الصالحين بعد أن ذكر فضل الدار الآخرة على الحياة الدنيا ، فقال:{ وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ ( 170 )} .