/م167
{ فخلف من بعدهم خلف} أي فخلف من بعد أولئك الذين كان فيهم الصالح والطالح ، والبر والفاجر ، خلف سوء وبدل شر ، قيل:إن الخلف بسكون اللام يغلب في الأشرار ، وإنما يقال في الأخيار خلف بالتحريك كسلف و{ ورثوا الكتاب} الذي هو التوراة عنهم ، وقامت الحجة به عليهم فماذا كان شأنهم ؟ الجواب{ يأخذون عرض هذا الأدنى} أي يأخذون عرض هذا الشيء الأدنى ، أي هذا الحطام الحقير من متاع الدنيا ، والمراد به ما كانوا يأكلونه من السحت والرشى ، والاتجار بالدين والمحاباة في الحكم والفتوى .
{ ويقولون سيغفر لنا} أي سيغفر الله لنا ، ولا يؤاخذنا بما أذنبنا ، فإننا شعبه الخاص ، وسلائل أنبيائه ، ونحن أنباؤه وأحباؤه ، وما هذه الأقوال إلا أماني ، وغرور وأوهام ، قال ابن كثير ، وقال مجاهد:هم النصارى ، وقد يكون أعم من ذلك اه وكل من القولين ينافيه مقتضى السياق ، فأوائل النصارى كانوا صالحين ، وسابق الكلام ولاحقه في اليهود وحدهم .
{ وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه} أي يقولون ذلك والحال أنهم مصرون على ذنبهم إن يأتهم عرض آخر مثل الذي أخذوه أولا بالباطل يأخذوه لا يتعففون عنه وإنما وعد الله في كتبه بالمغفرة للتائبين الذين يتركون الذنوب ندما وخوفا من الله ورجاء فيه ، ويصلحون ما كانوا أفسدوا ، كما تكرر في القرآن ، ومنه في سياق قصة موسى مع بني إسرائيل خطابا لهم من سورة طه{ وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى} [ طه:82] .
وقد رد الله تعالى عليهم زعمهم بقوله:{ ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق} الاستفهام للتقرير ، أي قد أخذ عهد الله وميثاقه في كتابه بأن لا يقولوا عليه غير الحق الذي بينه فيه ، فما بالهم يجزمون بأن الله سيغفر لهم مع إصرارهم على ذنوبهم على خلاف ما في الكتاب{ ودرسوا ما فيه} أي من تحريم أكل أموال الناس بالباطل والكذب على الله كقولهم إنه سيغفر لهم وغير ذلك ، وما أخذ عليهم من العهد والميثاق في العمل بكتابه كما في آخر سفر تثنية الاشتراع .
{ والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون} ؟ أي والدار الآخرة وما أعده الله فيها للذين يتقون الرذائل والمعاصي خير من الحطام الفاني من عرض الدنيا بالرشوة والسحت وغير ذلك ، أفلا تعقلون ذلك وهو ظاهر جلي لا يخفى على عقل لم يطمسه الطمع الباطل ، في الحطام العاجل ، فترجحون الخير على الشر ، والنعيم العظيم الدائم ، على المتاع الحقير الزائل ، وقد علم من الآية إن الطمع في متاع الدنيا هو الذي استحوذ على بني إسرائيل فأفسد عليهم أمرهم ، ولا يزال هذا التفاني فيها أخص صفاتهم .
وقد سرى شيء كثير من هذا الفساد إلى المسلمين ، حتى رجال الدين الذين ورثوا الكتاب الكريم ، والقرآن الحكيم ، ودرسوا ما فيه ، غلب على أكثرهم الطمع في حطام الدنيا القليل ، وعرضها الدنيء ، والغرور بالنسبة إلى الإسلام والتحلي بلقبه ، والتعلل بأماني المغفرة مع الإصرار على الذنب والاتكال على المكفرات والشفاعات ، وهم يقرؤون ما في الكتاب من النهي عن الأماني والأوهام ، ومن نوط الجزاء بالأعمال ، والمغفرة بالتوبة والإصلاح ، وكون الشفاعة لا تقع إلا بإذن الله لمن رضي عنه كقوله:{ ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون} [ الأنبياء:28] ولن يرضى الله عن فاسق ولا منافق{ فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين} [ التوبة:96] بل ما قص الله علينا مثل هذه الآيات من أخبار بني إسرائيل إلا لنعتبر بأحوالهم ، ونتقي الذنوب التي أخذهم بها ، ولكننا مع هذا كله اتبعنا سننهم شبرا بشبر وذراعا بذراع ، إلا أننا نحمد الله أن هذا الاتباع فينا غير عام ، وأنه لا يزال فينا طائفة ظاهرة على الحق يطعن فيها الجماهير الذين صار الإسلام فيهم غريبا ، وقد شرحنا ذلك مرارا بل صرحت الآيات بالتحذير من اتباع أهل الكتاب في أمانيهم وفي فسقهم كقوله تعالى:{ ليس بأمانيّكم ولا أمانيّ أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به} [ النساء:123] الخ وقوله:{ ألم يأن للّذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر اللّه وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون} [ الحديد:16] .
قرأ ( تعقلون ) بالتاء نافع وابن عامر وابن ذكوان وأبو جعفر وسهل ويعقوب وحفص فقيل إن الخطاب به لليهود المحكي عنهم بطريق الالتفات ، وقيل بل هو خطاب لهذه الأمة لتعتبر بحالهم ، وتجتنب ما كان سببا لسوء مآلهم ، من الإصرار على سوء أعمالهم ، وقرأ الآخرون ( يعقلون ) على الأصل في الحكاية ، عن الغائبين ، ولو صح ما قيل من أن هذه الآيات نزلت وحدها في المدينة لصح أن يقال إن الخطاب موجه إلى اليهود المجاورين لها ، لأنهم آخر ذلك الخلف ، الذي نزل فيه هذا الوصف في ذلك الوقت .