وبعد أن دعاهم الله تعالى إلى التفكير في أمر النبي الصادق الأمين ، دعاهم إلى النظر في الكون ليؤمنوا بالله وحده ، فقال تعالى:{ أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ( 185 )} .
عقيدة الإيمان الإسلامية شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وأنه الصادق الأمين ، وقد بين سبحانه في الآية السابقة أن صدق محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثابت عند المشركين لصحبته لهم قبل أن ينادي بأنه رسول رب العالمين ، ولم تتغير حاله بعد الدعوة وليس به جنون كما ادعيتم ولكنه حمل الرسالة بالإنذار والتبشير لكم فلا مسوغ لكم في تكذيبه ؛ وقد علمتم من ماضيه فيكم أنه الصادق ، وتأيد صدقه بالمعجزة الباهرة القاهرة فيكون كل ما جاء به حق .
وإنه إذا ثبتت المعجزة ، وإنها ثابتة لا محالة ، فقد ثبت كل ما جاء به ودعا إليه من التوحيد ، وألا يشركوا بالله شيئا .
وقد أخذ – سبحانه وتعالى – يثبته بالأدلة الكونية ، وقد دعاهم – سبحانه – إلى النظر في الكون ، وما خلق من شيء فقال تعالى:{ أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض} الملكوت صيغة مبالغة في الملك ، وهي تدل على كمال السلطان وقوة الملك ، وأن كل شيء في هذا الملكوت لا يسير إلا بأمر الله تعالى ونهيه – سبحانه وتعالى – والاستفهام للتعجب من أمر المشركين الذين هبط حالهم إلى عبادة حجر لا ينفع ولا يضر ، وهو ملقى ككل الحجارة الملقاة ولا ينظرون إلى الكون العظيم وخالقه ، لا ينظرون إلى السماء وأبراجها والشمس وضوئها ، والقمر ونوره ، وتعاقب الليل والنهار ، ولا إلى الأرض وسهولها وأوتادها{ وما خلق الله من شيء} ، والأشياء التي خلقها الله تعالى من حيوان ، وجماد وفلزات في باطن الأرض ، لا ينظرون إلى ذلك ويسجدون للصنم ، ويجعلونه إلها كخالق هذا الكون ، وخالق الوجود كله ! إن هذا قصور في الفكر والعقل ، وضلال في القول والعمل ، وخبط في العبادة من غير إدراك .
وقوله تعالى:{ أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض} الفعل فيها عطف على فعل محذوف تقديره أيشركون بالله أصناما ، ويجعلونها أندادا له – سبحانه – وتعالى – ولم ينظروا إلى خلق الله وعظم هذا الخلق ، والأثر يدل على المؤثر ، والمخلوق يدل على الخالق ، سبحانه ، وهذا الكلام فيه دعوة إلى النظر في الكون ،{ وما خلق الله من شيء} في السماء والأرض ، فقد قال تعالى:{ قل انظروا ماذا في السماوات والأرض ………… . ( 101 )} ( يونس ) ، وقال تعالى:{ أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ( 17 ) وإلى السماء كيف رفعت ( 18 ) وإلى الجبال كيف نصبت ( 19 ) وإلى الأرض كيف سطحت ( 20 )} ( الغاشية ) ، وقال تعالى:{ وفي أنفسكم أفلا تبصرون ( 21 ) وفي السماء رزقكم وما توعدون ( 22 )} ( الذاريات ) .
وهكذا يجب ابتداء النظر إلى الكون وما فيه ، وإلى النفس الإنسانية وما هي ، ومم تكونت ، ولقد أمر الله تعالى في الآية بالنظر إلى مآل الإنسان ، وأنه داع إلى الاعتبار ، ولا يمكن أن يكون قد خلق عبثا ، فقال تعالى:{ عسى أن يكون قد اقترب أجلهم} ، و ( أن ) هنا مخففة من ( أن ) الثقيلة ، وإنها ضمير الشأن ، أي:وأنه الحال والشأن أن يكون قد اقترب أجلهم .
والله – سبحانه وتعالى – يذكرهم بضرورة النظر إلى الموت ، وإلى أن الأجل الذي أقت لحياتهم انتهى ، وهذا التذكير فيه فوائد:
أولاها – أن غرور الحياة يدفع إلى الطغيان فيها ، فينهوي إلى ضلالها ، فإذا ذكر بالموت علم أنها فانية فيقل طغيانه وغروره بها وتلك نافذة الإيمان .
ثانيها – أن تذكر الموت يدفع إلى التفكير في قيمة الحياة فإذا عرف قيمتها عرف قيمة الدنيا ؛ ولذلك كان بعض الصالحين إذا عزى في وفاة قال:اللهم انفعنا بالموت ، لأنه عبرة وفيه إنذار بالنهاية فإن لم يؤمن باليوم الآخر ، فالحياة تكون لغير غاية .
ثالثها – أن التفكير في الموت والنظر فيه يدفع إلى الإيمان باليوم الآخر ، وأن حياته ليست عبثا كما قال تعالى:{ أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا ترجعون ( 115 )} ( المؤمنون ) .
إنها آيات الله البينات ، فيها عبرة وعظة لقوم يؤمنون .
ولقد قال تعالى من بعد ذلك في استفهام تعجبي:{ فبأي حديث بعده يؤمنون} الفاء هنا للإفصاح عن شرط مقدر تقديره إذ لم يؤمنوا بالله الخالق المنشئ المدبر ، وآياته الدالة عليه ولا في الموت النازل بهم لا محالة ، إذ لم يؤمنوا بذلك ، فبأي حديث يحدثون به يؤمنون .
والاستفهام إنكاري توبيخي ، هو نفي لإيمانهم بأي حديث مهما يكن ، وذلك فيه توبيخ ، وفيه إثبات أن أمثال هؤلاء لا يؤمنون بشيء وفقدت قوة الإيمان بأي أمر ، ومن فقد أصل الإيمان بالأشياء فهو حائر ضال لا يهتدي ؛ ولذا قال الله تعالى بعد ذلك:{ من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون} .