وإن اغترار المشركين بالمال والنفر يمنعهم من التفكير في مآل أمرهم ، والداعي إلى الحق وماضيه ؛ ولذا قال تعالى:{ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ( 184 )} .
لقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأمين الصادق في قريش ، وعاش بينهم أربعين سنة كان يعرف بينهم بالأمين ، وإذا ذكر اسم الأمين لا ينصرف إلا إليه ، يحكم بينهم في خلافهم إذا تنازعوا ، ويرتضون حكمه إيمانا بعقله وكمال تدبيره ، فلما دعاهم إلى الحق وترك عبادة الأوثان قالوا مجنون ، وقد رد الله قولهم بقوله:{ وما صاحبكم بمجنون ( 22 )} ( التكوير ) .
ولما رموه بهذا دعاهم الله أن يتدبروا ما يقولون ، ويوازنون بين قولهم هذا وما عرفوه من قبل ، حتى يدركوا الحق وينفوا قولهم فيه ، فقال:{ أو لم يتفكروا بصاحبهم من جنة} أي يقولون هذا القول ، ولم يتفكروا ، ويعلمون أنه ما بصاحبهم من جنة ، فالتفكير ليردوا عقولهم إلى ماضي قولهم فيه من أنه العاقل الأمين في شبابه ، حتى إذا بلغ أشده وبلغ الأربعين قالوا فيه ما قالوا ، وإن نتيجة التفكر والموازنة أن ينتهوا إلى الحكم بأنه{ ما بصاحبهم من جنة} . وعبر الله تعالى بقوله:{ ما بصاحبهم} من فيه إشارة إلى مصاحبته أربعين سنة في صحبة كريمة عاقلة أمينة يرجعون إليه في أمورهم المهمة ، ويشركهم في فعل الطيبات أنى اتجهوا إليها .
وإن ما دفعكم إلى هذا الوصف ينافي ماضيه وحضره إنما هو أنه جاء بالحق بشيرا ونذيرا وهاديا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ؛ ولذا قال تعالى:{ إن هو إلا نذير مبين} أي ذاكر لكم عاقبة الكفر ، وهو العذاب الشديد ، مبين لكم ذلك وموضحه .
والاستفهام هنا إنكاري للتوبيخ ؛ لأنهم اندفعوا في رميه بالجنون من غير أن يتفكروا .
وقد وردت آيات كثيرة في هذا المعنى فقد قال تعالى:{ قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم من بين يدي عذاب شديد ( 46 )} ( سبأ ) .
فالله تعالى في هذه الآية يدعوهم إلى أن يتفكروا مجتمعين وفرادى ، ومتذاكرين وستنتهون إلى أنه{ ما بصاحبهم من جنة} ، إنه الكامل فيكم صبيا وشابا ورجلا مكتملا ، ولكنه العناد قد جركم إلى إنكار ما هو ثابت ثبوتا لا مجال للريب فيه .