لما كان تكذيبهم بالآيات منبعثاً عن تكذيبهم من جاء بها ،وناشئاً عن ظن أن آيات الله لا يجيء بها البشر ،وأن مَن يدعي أنه مرسل من الله مجنون ،عقب الإخبار عن المكذبين ووعيدهم بدعوتهم للنظر في حال الرسول ،وأنه ليس بمجنون كما يزعمون .
واستعمال العرب همزة الاستفهام مع حروف العطف المشركة في الحكم استعمال عجيب تقدم بيانه عند قوله تعالى:{ أفكلما جاءكم رسولٌ بما لا تهوى أنفسكم أستكبرتم} في سورة البقرة ( 87 ) .
والجملة مستأنفة ،وهي ابتداء كلام في محاجتهم وتنبيههم بعد الإخبار عنهم بأنهم مستدرجون ومملى لهم .
والاستفهام للتعجيب من حالهم والانكار عليهم ،و ( ما ) في قوله:{ ما بصاحبهم من جنة} نافية كما يؤذن به دخول ( من ) على منفى ما ،لتأكيد الاستغراق .
وفعل{ يتفكروا} منزل منزلة اللازم ،فلا يقدر له متعلق للاستغناء عن ذلك بما دل عليه النفي في قوله:{ ما بصاحبهم من جنة} أي ألم يكونوا من المفكرين أهل النظر ،والفعل المعلق عن العمل لا يقدر له مفعول ولا متعلق .
والمقصود من تعليق الفعل هو الانتقال من علم الظان إلى تحقيق الخبر المظنون وجعله قضية مستقلة ،فيصير الكلام بمنزلة خبرين خبر من جانب الظان ونحوه ،وخبر من جانب المتكلم دخل في قسم الواقعات فنحو قوله تعالى:{ لقد علمت ما هؤلاء ينطقون}[ الأنبياء: 65] هو في قوة أن يقال: لقد علمت لا ينطقون ما هؤلاء ينطقون ،أي ذلك علمك وهذا علمي ،وقوله هنا:{ أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة} في قوة: أو لم يتفكروا صاحبهم غير مجنون ،ما بصاحبهم من جنة .فتعليق أفعال القلب ضرب من ضروب الإيجاز ،وأحسب هذا هو الغرض من أسلوب التعليق لم يُنبه عليه علماء المعاني ،وأن خصائص العربية لا تنحصر .
و« الصاحب » حقيقته الذي يلازم غيره في حالة من سفر أو نحوه ،ومنه قوله تعالى:{ يا صاحبي السجن}[ يوسف: 41] ،وسميت الزوجة صاحبة ،ويطلق مجازاً على الذي له مع غيره حادث عظيم وخبر ،تنزيلاً لملازمة الذكر منزلة ملازمة الذات ،ومنه قول أبي معبد الخزاعي لامرأته ،أم معبد ،لما أخبرته بدخول النبي صلى الله عليه وسلم بيتها في طريق الهجرة ووصفت له هديه وبركتَه: « هذا صاحب قريش » ،وقولُ الحجاج في بعض خطبه لأهل العراق « ألَسْتُم أصحابي بالأهواز حين رمتم الغدر واستبطنتُم الكفر » يريد أنهم الذين قاتلوه بالأهواز ،فمعنى كونهم أصحابه أنه كثر اشتغاله بهم ،وقول الفضل بن عبّاس اللّهَبي:
كلُّ له نيّةٌ في بُغْض صاحبه *** بنعمة اللَّه نقليكم وتقلونا
فوصفُ الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه صاحب الذين كذبوا بالآيات: هو بمعنى الذي اشتغلوا بشأنه ولزموا الخوض في أمره ،وقد تكرر ذلك في القرآن كقوله تعالى:{ وما صاحبكم بمجنونٍ}
[ التكوير: 22] .
والجنة بكسر الجيم اسم للجنون ،وهو الخبال الذي يعتري الإنسان من أثر مسّ الجن إيّاه في عرف الناس ،ولذلك علقت الجنة بفعل الكون المقدر ،بحرف الباء الدال على الملابسة .وإنما أنكر عليهم وعُجّب من إعراضهم عن التفكر في شأن الرسول عليه الصلاة والسلام أنه غير مجنون ،رداً عليهم وصفهم إياه بالجنون{ وقالوا يأيها الذي نُزّل عليه الذكر إنك لمجنون}[ الحجر: 6] ،{ وقالوا معلمٌ مجنونٌ}[ الدخان: 14] وهذا كقوله تعالى:{ وما صاحبكم بمجنون}[ التكوير: 22] .
وجملة:{ إن هو إلا نذير مبين} استئناف بياني لجواب سائِل منهم يقول: فماذا شأنه ،أو هي تقرير لحكم جملة:{ ما بصاحبهم من جنة} ففصلت لكمال الاتصال بينهما المغني عن العطف .
والنذير المحذر من شيء يضر ،وأصله الذي يخبر القوم بقدوم عدوهم ،ومنه المثل « أنا النذير العُريان » يقال أنذر نذارة بكسر النون مثل بشارة فهو منذر ونذير .
وهذا مما جاء فيه فعيل في موضع مُفْعل ،مثل الحكيم ،بمعنى المحكم ،وقول عمرو بن معديكرب:
أمنْ رَيْحانةَ الداعي السميعُ
أي المُسْمع .والمبين اسم فاعل من أبان إذا أوضح ،ووقع هذا الوصف عقب الإخبار ب ( نذير ) يقتضي أنه وصف للخبر ،فالمعنى أنه النذير المبين لنذارته بحيث لا يغادر شكاً في صدقه ،ولا في تصوير الحال المحذر منها ،فالغرض من اتباع « النذير » بوصف « المبين » التعريض بالذين لم ينصاعوا لنذارته ،ولم يأخذوا حذرهم من شر ما حذرهم منه ،وذلك يقطع عذرهم .
ويجوز جعل{ مبين} خبراً ثانياً عن ضمير صاحبهم ،والمعنى أنه نذير وأنه مبين فيما يبلغه من نذارة وغيرها .
والقصر المستفاد من النفي والاستثناء قصر موصوف على صفة ،وهو يقتضي انحصار أوصاف الرسول صلى الله عليه وسلم في النذارة والبيان ،وذلك قصر إضافي ،هو قصر قلب ،أي هو نذير مبين لا مجنون كما يزعمون ،وفي هذا استغباء أو تسفيهٌ لهم بأن حاله لا يلتبس بحال المجنون للبون الواضح بين حال النذارة البينة وحال هذيان المجنون .فدعواهم جنونه: إما غباوة منهم بحيث التبست عليهم الحقائق المتمايزة ،وإما مكابرة وعناد وافتراء على الرسول .