ولقد بين الله من بعد ذلك أنها أدنى خلقا ممن يعبدونها فقال تعالى:
{ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ ( 195 )}
إن الآية السابقة ، ذكرت أنهم عباد أمثالهم ، وخرجنا معناها على ذلك ، ويكون قوله:{ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا} وتكون الآية هنا تنزيلا لهم عن مقام المماثلة إلى ما دونها ، فأنتم لكم أجسام مصورة ؛ لكم أرجل تمشون بها ، وأيد تبطشون بها ولكم آذان .
وأنسينا عند الكلام في معاني الآية السابقة أن نذكر قراءة ( إن ) بالتخفيف بمعنى النفي ، ويكون المعنى:( ليس الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم ) فتكون لنفي المماثلة بينهم ، بل إن المشركين في الخلق والتكوين أكمل وأعلى فكيف يعبد الأعلى من هو أدنى منه مقاما ، وأقرب منه إلى الإكرام . ويكون قوله تعالى:{ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا} الآية بيانا لهذه الأفضلية ، ومنع المماثلة . وأن قوله تعالى:{ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} لاستفهام كله للإنكار بمعنى نفي الوقوع ، أي ليست لهم أرجل ، ولا أيد ، ولا آذان . وجاء النفي بصيغة الاستفهام لتأكيده بالدعوة إلى الالتفات لهم ، ثم الحكم ينفي هذه الجوارح عنهم ، ومن عنده هذه الجوارح أكمل بلا ريب في الخلق والتكوين والآخر أدنى منه .
وقد ذكر المشي بالنسبة للرجل ، والبطش بالنسبة لليد ، والسماع بالنسبة للأذن مع أنه إذا انتفى وجود الرجل انتفى المشي لا محالة ، وكذا السمع واليد ، فلماذا ذكرت هذه الصفات مع أن نفي الأصل ينفيها ، ذكرت لدلالة على قوة العابدين لهم ، وضعف هذه المعبودات ، فكيف يعبد القوى الضعيف ، كيف يعبد القادر غير القادر ، وكيف يعبد من أوتي الحركة الجماد الذي لا يتحرك ، ولا يستطيع أن يدفع الباطش به أن يبطش .
ومع هذا الضعف الدال على الزارية بمن يعبدونها ، كانوا يخفون النبي صلى الله عليه وآله وسلم منهم ، كما خوف من قبل قوم نوح وعاد وثمود أنبياءهم . فقد قال تعالى عن هود إذ هددوا عاد:{ إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون ( 54 ) من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون ( 55 ) إني توكلت على اله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم ( 56 )} ( هود ) .
كانوا يخوفون النبي صلى الله عليه وآله وسلم منها ، كما كانوا هم يخافون ، ولقد تحداهم الله تعالى أن ينزلوا هم وأوثانهم بالنبي ما يخوفون فيكون ذلك بيان لعجزهم ؛ ولذا قال تعالى:{ قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون} .
إن كنتم تخافونهم ، وتخوفون محمدا فقل يا محمد:ادعوا شركاءكم ، أي من جعلتموهم شركاء لله ، فالإضافة لأدنى ملابسة ، أي الشركاء الذين هم شركاء في زعمكم أي هم شركاء في زعمكم أنتم{ ثم كيدون} ، أي دبروا لي وأعلنوا الحرب ، وقد يطلق الكيد ويراد به الحرب . تقول كتب السيرة في بعض سرايا النبي صلى الله عليه وآله وسلم:( عادوا ولم يلقوا كيدا ) ( 1 ) ، أي حربا . والمعنى أعلنوها حربا مدبرة{ فلا تنظرون} ، أي تؤجلوني لحظة من زمان ، هذا تحد أمر الله تعالى به نبيه ، وبيان لضعف ما يعبدون – وإنما هي الأوهام ، ووساوس الشيطان هي التي تفرض فيهم قوة ، وما هم بشيء فضلا عن أن يخوف عاقل مدرك بهم .