تدرج الله تعالى مستنكرا لعبادتهم من أدنى حال متصورة لهم إلى أعلاها ، فذكر أنها أحجار لا تضر ولا تنفع ولا تستطيع لأحد نصرا ولا تنصر نفسها ، ثم صور لهم أنها تنادى فلا تجيب لأنها لا حياة فيها ، إنما يجيب النداء للأحياء ولو كانت تنعق ، ثم تدرج إلى تصور أنها من الأحياء ، فإنها لا تستجيب للدعاء ، فقال تعالت كلماته:
{ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( 194 )} .{ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( 194 )} .
الخطاب للمشركين من أول الحديث في عبادتهم الأوثان ، والله – سبحانه وتعالى – يتدرج في تصويره لما يعبدون من أحجار لا تنفع ولا تضر ولا تسمع ، وليس فيها حياة إلى فرض أنها فيها حياة ، وفي هذا الفرض البعيد لا يعلون عليكم معشر المشركين ، بل ينهدون إلى أن يكونوا عبادا مثلكم والمعبود يجب أن يكون أعلى منكم لتسجدوا له ، فكيف تعبدون مثلكم ، ولماذا تختارونه للعبادة وهو على أكثر تقدير له – مثلكم ؟ ! .
والحق أنه دونكم لأنه أصم لا يسمع ، أبكم لا يتكلم ، قد محيت منه آية الإبصار فلا يرى . ولقد تحداهم أن يدعوهم ، فإن استجابوا كان لكم أن تدعوا ما تدعون زورا وربما تعدون في العقول ؛ ولذا قال تعالى:{ فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين} في دعواكم الألوهية . والأمر للتحدي أو للتعجيز لا للطلب ولا الإباحة .
وهنا ملاحظات بيانية:
الأولى – أنه سبحانه وتعالى قال عن الأحجار:{ عباد أمثالكم} وكيف يقال إنها عباد ، وكيف يقال:إنها مثل المشركين ، وكيف يتحدث عنها كأنها جمع مذكر سالم ؟ . والجواب عن هذا أن الواضح هو بيان مثليتها في أنها مخلوقة مثلهم ، وعلى الأقل هي متماثلة مع المشركين في أنها خلق لله لا تعبد كما لا يعبدون ، فكيف يعبدونها ، وهذا القدر كاف لاستنكار عبادتها ، وتسميتها ، عبادا من حيث إنها خاضعة لله ، فلله يسجد طوعا أو كرها كل ما في السماء والأرض من أجرام .
والبعض يزعم أن للجماد روحا{. . . . . . . . . . . . . وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله . . . . . . . . . . ( 74 )} ( البقرة ) . وعود الضمير عليها كضمير جمع العقل مجاراة لهم في تفكيرهم ، إذ جعلوها من العقلاء فعبدوها .
الثانية – لام الأمر في قوله تعالى:{ فليستجيبوا لكم} ما موضعها من القول ؟ نقول:إن موضعها أنها لام الأمر ؛ يطلب إليهم رب العزة أن يأمروهم ليستجيبوا ، أي أن الأمر بالاستجابة ليس من الله تعالى ؛ لأن الله تعالى لا يطلب الاستجابة ممن لا يجيب ، بل الأمر يكون من غيره ممن يعبدها وليكون التعجيز والتحدي كاملا .
وبهذا التخريج يكون طلب الاستجابة من المشركين لا من الله تعالى .
الثالثة – أن سياق القول يدل على أن الاستجابة غير ممكنة ؛ ولذا كانوا غير صادقين ، وبذلك ينتهي التحدي بالتعجيز والعجز ، فعجزوا أن يثبتوا صدقهم .