قراءة القرآن عبادة ، وجزء من أكبر عبادة
وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( 204 ) وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ ( 205 ) إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ( 206 )
بين الله – سبحانه وتعالى – في الآية السابقة أن الآية التي تحدى بها العرب أن يأتوا بمثلها هي بصائر مبينة للناس الحقائق الدينية ، ومثبتة لصدقها ، وهي هدى ورحمة ، وهي القرآن ، ولا يمكن أن ينتفع بها بعد إعجازها بأن ينتفع بهدايتها ورحمتها إلا إذا قاموا بحقها عند قراءتها بالاستماع إليها ، والإنصات لها ، وتدبر ما جاء فيها من تكليف هو رحمة للعالمين ، ومواعظ ، وعبر وقصص في ذكر الأولين ؛ ولذا قال تعالى بعد ذلك:{ وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( 204 )} .
القراءة للقرآن عبادة من القارئ ؛ لأنه يتلو كلام الله تعالى ، وأي منزلة في القربى إلى الله تعالى أعلى من أن يكون متحدثا بحديث الله فهو يتكلم بكلام خالق الوجود ، وتجري على لسانه عباراته جل وعلا ، ويرطب لسانه بأطيب كلام ، فهو عبادة ؛ ولذلك وجب أن يكون متطهرا من الجنابة ويحسن أن يكون على طهارة كاملة .
إن قراءة القرآن سمو إلى المكان الأعلى والمقدس الأقدس لمن تدبر موقفه عند القراءة ومقامه .
والاستماع إلى القراءة عبادة ، إذا استشعر بأن الله تعالى يخاطبه بالقرآن من أعلى الملكوت ، وهو عن يستمع يناهد إلى مقام رب العزة فيستمع إليه ، أكاد أرى أن هذا مقام طهر ، لا يستمع إليه من به نجاسة من جنابة وإذا كان الفقهاء لم يصرحوا بهذا فإني أراه مقتضى مقام الطهر لمستمع أطهر قول في الاستماع افتعل من السماع أي طلب سماعه ، والإقبال عليه ، وتلقيه بقوة وتقبل معانيه ؛ ولذا قال بعض المفسرين:إن الاستماع هو تدبر المعاني ، والاستبصار بها ، وإدراك مراميها ومغازيها ، فليس المراد مجرد السماع ، بل السمع في تدبر وتفهم وتذكر واعتبار .
وقال تعالى:{ فاستمعوا له وأنصتوا} الإنصات معناه السكوت للاستماع والمراعاة ، والإصغاء ، فمعنى{ أنصتوا} ، أي هيئوا أنفسكم للاستماع وأعدوها وراعوا ما تسمعون ، وكان الإصغاء تقدمه للاستماع ، بأن يفرغ النفس له ، ويقدم عليه ، كأنه مقدم علمي صاحب الكلام ، وهو رب العالمين ، ألم تر الناس وهم يقدمون على استماع كلام عظيم من عظماء الأرض في سلطانه ، يستعدون وينصتون فكيف بكلام مالك الملك ذي الجلال والإكرام والإنعام .
القرآن قراءته عبادة ، والاستماع إليه مع التدبر والتأمل وتعرف أسراره عبادة ، وهو جزء من أكبر عبادة ( وهي الصلاة ) ؛ ولذا قال تعالى:{. . . . . . . . . . . . فاقرءوا ما تيسر منه . . . . . . . . . . . . . . . ( 20 )} ( المزمل ) .
وقال بعض العلماء:إن قوله تعالى:{ وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُوا} نزلت للقراءة في الصلاة .
ونقول:إنها عامة ، ولو نزلت في مقام خاص ؛ لأن الأصوليين يقولون العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
ولقد قال تعالى في ختام هذه الآية الكريمة:{ لعلكم ترحمون} ، أي رجاء أن ترحموا بطلبكم للقرآن ، وتدبر آياته والإنصات إليه ، والأخذ بتكليفاته ، ومواعظه ، فهو رحمة ، ومنه الرحمة ، وهو نور وبرهان .
والرجاء من العباد والله تعالى يعاملهم معاملة من يرجو وهو القادر العليم .