وإذا كان تدبر القرآن والاستماع إليه وتلاوته رحمة ، فذكر الله تعالى هو أصل الرحمة ، فقال:{ وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ ( 205 )} .
القرآن هو الذكي الحكيم ، وهو الذكر الأكبر ، وهو خير أوراد المؤمنين ؛ ولذلك بعد الأمر بالقراءة والاستماع إليه مع الإنصات رجاء الرحمة أمر –سبحانه وتعالى – بدوام الذكر له تعالى ، بأن يكون الله تعالى حاضرا في نفسه أطراف الليل وآناء النهار لا يغفل عن ذكره – سبحانه وتعالى – وأن يكون حاضرا في قلبه في كل وقت يعمر قلبه ، ويملأ نفسه ؛ ولذا قال تعالى:{ وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} .
فالذكر يبتدئ بامتلاء النفس بالله يعمر قلبه دائما ، وأن تكون في حال تضرع وتذلل لله تعالى ، فالذلة لله تعالى هي عين العزة ، والتكبر في حق الله تعالى هو عين الذلة ، وإن كان لا يشعر ؛ لأن من ذل لله استعلى على الناس بأمر الله تعالى ، ومن تعالى على جانب الله استعان بأحط الناس قدرا فكان ذليلا ، وسبحان من له العزة والكبرياء في السماوات والأرض .
وذكر الله تعالى يكون في حال خوف من عقابه ؛ ولذا قال تعالى:{ وخيفة} ، أي حال خوف فإن الخوف من الله يطهر النفس ، ويجعلها لا تستحسن ما تقدم ، بل تستصغر ما تقدم وتطلب المزيد من الخير فترضي الله تعالى أو تنال رضوانه ، وهو أكبر جزاء ، وإن الخوف يوجب استصغار شأن العبيد ، ومن عز عند الله كانت له العزة ، ومن عز عند العبيد كانت له الذلة ، ومن خاف من الله لا يخاف الناس .
وإن الذكر لله الأصل فيه القلب ، ولكن يكون مع القلب ذكر اللسان ، بحيث لا يسمع إلا نفسه ؛ ولذا يقول تعالى في حال الذكر لله:{ وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} .
وإن الله – سبحانه وتعالى – حد النطق باللسان فجعله دون الجهر من القول ، أي لا يرفعه جاهرا ، ولا يخفضه خافتا ولكن لا بد من ذكر اللسان ، لأن ذكر اللسان يسد منافذ الشيطان ، فحركة اللسان المقصودة تضبط النفس نحو ذكر الله تعالى:ويجعل ذكر النفس ثابتا ، وعمرانها بالله قائما لا ينسى وحد الله تعالى الوقت فقال:{ بالغدو} أي في غداة اليوم ،{ والآصال} ، وهي جمع ( أصيل ) ، ك ( يمين ) و ( أيمان ) . إن الذكر يكون وقت الغدو أي وقت الصفاء ، والآصال أي وقت استرواح النفس من عناء عمل الناس ، وبعض العلماء يقول:إن تحديد هذين الوقتين لدوام الذكر آناء النهار وطرفا الليل ، أي يكون في ذكر دائم ،ويقرب هذا قراءة ( وبالإيصال ) أي من الغدوة وأصلا الذكر دائما ما دام صاحيا .
وقد يقول قائل:كيف يكون وقت المعاش والقيام بالصناعات ؟ نقول:يجب دوام ذكر الله تعالى وهو في عمله ؛ لأن العمل عبادة والذكر عبادة ولا مانع من أن يجتمعا ، فيكون عاملا عابدا ، مجدا ذكر الله ، وينطبق على هذا قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( لا يؤمن أحدكم حتى يحب الشيء لا يحبه إلا الله ) ( 1 ){[1143]} فهو يعمل لينفع الناس ويقصد ذلك ، وهذه عبادة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول:( خير الناس أنفعهم للناس ) ( 2 ){[1144]} .