وإنك إن علوت من رذائل الأفعال إلى فساد العقول ، تجد إخوان السوء هم الذين يمدون في فساد العقول بعبادة الأوثان والكفر بالآيات ؛ ولذا قال تعالى:{ وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي هَذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( 203 )} .
الشيء الغائب معظم مذكور بالخير في زعم الذين يسيرون وراء الأوهام ، ولا يحكمون الحقائق في ذاتها ، فكل مستور تتوهم فيه الأوهام ، وتحاط به ، وكذلك كان إخوان السوء يجيئون إلى تضليل الناس من وراء ما يستتر عنهم ، فالغيب عن الناس لم تجئ من ورائه إلا الأباطيل .
بين أيدي الناس معجزة باهرة قاهرة تحداهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يأتوا بسورة فعجزوا ؛ ثم تحداهم أن يأتوا بسورة مفتراة فعجزوا ، ومع ذلك طلبوا هم وإخوان الغي فيهم أن يأتيهم بآية غائبة لم تأتهم ، فما دامت لم تأتهم فلها قدسية ، فقال الله تعالى عنهم:{ وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا} .
أي إن الذي أغراهم بطلبها أنه لم يأت بهذه الآية ، ولو سايرهم بمنطق تفكيرهم لتأدى بهم أنه إذا جاءتهم الآية وصارت حاضرة مهيأة بين أيديهم طلبوا آية أخرى وقالوا لولا اجتبيتها ، وهكذا تتوالى الطلبات عبثا ؛ لأن من لا يؤمن لا ينفعه بشيء .
والأولى الوقوف عند حال معينة فاطمة للنفس ، عن متطلباتها ، والوقوف عندها . وقوله تعالى:{ وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا} لولا بمعنى هلا للحض على الإتيان بآية معينة طلبوها بذاتها ،{ اجتبيتها} ، أي اخترتها ، وهي آية حسية ، وقد جاءت من قبلهم مثلها فكفروا ، وإذا كانت الجملة شرطية فمؤداها أنهم مطالبون بما لم يأتهم آية بعد آية ، وما هذا شأن المؤمنين ، فالدليل إذا كان مقنعا ، فهو كاف وحده .
ولقد أمر الله تعالى نبيه بأن يرد عليهم بقوله:{ قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون} .
هذا هو الجواب الذي أمر الله تعالى به نبيه أن يجيبهم على الطلب الذي دفع إليه أوهامهم الباطلة وهو مكون من أجزاء ثلاثة:
الجزء الأول عبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقول:{ قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي} وخلاصته أن الآية يختارها لي ربي لا أبدي عليه ، ولا أعين له ، وقد قصر الآية على ما يوحى به الله ، وحصره ب ( إنما ) أي ليس أن أقترح عليه آية لم يأت بها ، وبين الدليل على وجوب الطاعة فيما اختار ، فهو ربي الذي خلقني وأرسلني ، وهو أعلم بما يصلح دليلا لرسالتي وما لا يصلح ، وهو وحده الذي يوحي إلي فليس لي أن أقترح عليه ، وإن كفرتم بآياته فقد كفرتم به ، وفي هذا الجزء برهان صدق الآية التي تحداهم بها .
الجزء الثاني وصف الآيات . فقال تعالى:{ هذا بصائر من ربكم} البصائر جمع بصيرة وأصلها من البصر وهي الرؤية والنظر ثم الإدراك والفهم ثم أطلقت على ما يؤدي إلى الإدراك هو آلته ، فلإطلاق البصائر على الآيات من قبيل المجاز ؛ لأنها سبب إدراك الحقائق الربانية ، والسبيل إلى معرفة الله تعالى وقدرته ، ورسالاته الإلهية ، فهي من قبيل إطلاق اسم السبب ، وإرادة المسبب ، وهو إبصار الحقائق الربانية ، ومعرفتها .
وإذا كانت هي بصائر آتية من قبل الله تعالى فهو الذي يجتبيها ويختارها ، ويريدها ، وهي من ربكم الذي خلقكم وبرأكم ، وزهو أعلم بمن خلق ورب وبرأ وهو اللطيف الخبير .
والجزء الثالث قال تعالى في وصف هذه الآيات ، وهو الذي قال بقوله تعالى:{ وهدى ورحمة لقوم يؤمنون} .
هذان وصفان وصف الله تعالى آياته ، وأخصها القرآن ، ففيه أمران جليلان ذا شأن في الرسالات الإلهية:
أولهما – فيه هدى يهدي إلى الحق ، وإلى صراط مستقيم ، فهو يبين الهدى من الضلالة ، والنور من الظلمات بما اشتمل عليه ، وبدلالته الذاتية ، وبإعجازه ، وبأنه يهدي إلى الطيب من القول ، ويهدي إلى الصراط الحميد .
وثانيهما – أن فيه الرحمة بما اشتمل عليه من شريعة حكيمة تصلح أمور الناس ، وتذهب عنها الفساد ، فهي بما شرعت من النظم في الأسرة ، ومعاملات بين الناس ، ومنع لأكل أموالهم بينهم بالباطل .
وإن هذه الهداية وتلك الرحمة لقوم من شأنهم الإيمان ؛ ولذا قال تعالى:{ لقوم يؤمنون} فوصفهم بالجملة التي يتصدرها الفعل المضارع للدلالة على إيمانهم المستمر ، المتجدد آنا على وجه الدوام .
وذلك لأن شأن المؤمن أن يتجدد إيمانه ، فيقوى بالعمل المستمر والمتجدد ، فإن العمل الصالح يجدد الإيمان ، فلو كان العمل فهو للإيمان كالماء العذب الفرات يغذي الإيمان كما يغذي الماء الزرع .