معطوفة على جملة:{ وأعرض عن الجاهلين}[ الأعراف: 199] والمناسبة أن مقالتهم هذه من جهالتهم والآية يجوز أن يراد بها خارق العادة أي هم لا يقنعون بمعجزة القرآن فيسألون آيات كما يشاءون مثل قولهم ( فجر لنا من الأرض ينبوعاً ) وهذا المعنى هو الذي شرحناه عند قوله تعالى:{ وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آيةٌ ليؤمنن بها} في سورة الأنعام ( 109 ) .وروي هذا المعنى عن مجاهد ،والسُدي ،والكُلبي ويجوز أن يراد بآية ءاية من القرآن يقترحون فيها مدحاً لهُم ولأصنامهم ،كما قال الله عنهم:{ قال الذين لا يرجون لقاءنا ائْتِ بقرآن غير هذا أو بَدلْه}[ يونس: 15] روي عن جابر بن زيد وقتادة: كان المشركون إذا تأخر الوحي يقولون للنبيء هلا أتيت بقرآن من عندك يريدون التهكم .
و{ لولا} حرف تحْضيض مثل ( هلا ) .
والاجتباء الاختيار ،والمعنى: هلاّ اخترت آية وسألت ربك أن يعطيكها ،أي هلا أتيتنا بما سألناك غير آية القرآن فيجيبك الله إلى ما اجتبيتَ ،ومقصدهم من ذلك نصب الدليل على أنه بخلاف ما يقول لهم إنه رسول الله ،وهذا من الضلال الذي يعتري أهل العقول السخيفة في فهم الأشياء على خلاف حقائقها وبحسب من يتخيلون لها ويفرضون .
والجواب الذي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يجيب به وهو قوله:{ قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي} صالح للمعنيين ،فالاتباع مستعمل في معنى الاقتصار والوقوف عند الحد ،أي لا أطلب آية غير ما أوحى الله إلي ،ويعضد هذا ما في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَا من الأنبياء إلا أوتي من الآيات مَا مثلُه آمنَ عليه البشر وإنما كان الذي أوتيت وحياً أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة» ويكون المعنى: إنما انتظر ما يوحى إلى ولا أستعجل نزول القرآن إذا تأخر نزوله فيكون الاتباع متعلقاً بالزمان .
مستأنفة لابتداء كلام في التنويه بشأن القرآن منقطعه عن المقول للانتقال من غرض إلى غرض بمنزلة التذييل لمجموع أغراض السورة ،والخطاب للمسلمين .
ويجوز أن تكون من تمام القول المأمور بأن يجيبهم به ،فيكون الخطاب للمشركين ثم وقع التخلص لذكر المؤمنين بقوله:{ وهدى ورحمة لقوم يؤمنون} .
والإشارة ب{ بهذا بصائر} إلى القرآن ،ويجوز أن تكون الإشارة إلى ما تقدم من السورة أو من المحاجة الأخيرة منها ،وإفراد اسم الإشارة لتأويل المشار إليه بالمذكور .
والبصائر جمع بصيرة وهي ما به اتضاح الحق وقد تقدم عند قوله تعالى:{ قد جاءكم بصائر من ربكم} في سورة الأنعام ( 104 ) ،وهذا تنويه بشأن القرآن وأنه خير من الآيات التي يسألونها ،لأنه يجمع بين الدلالة على صدق الرسول بواسطة دلالة الإعجاز وصدوره عن الأمي ،وبين الهداية والتعليم والإرشاد ،والبقاء على العصور .
وإنما جمع « البصائر » لأن القرآن أنواعاً من الهدى على حسب النواحي التي يهدي إليها ،من تنوير العقل في إصلاح الاعتقاد ،وتسديد الفهم في الدين ،ووضع القوانين للمعاملات والمعاشرة بين الناس ،والدلالة على طرق النجاح والنجاة في الدنيا ،والتحذير من مهاوي الخسران .
وأفرد الهدى والرحمة ؛لأنهما جنسان عامان يشملان أنواع البصائِر فالهدى يقارن البصائِر والرحمة غاية للبصائر ،والمراد بالرحمة ما يشمل رحمة الدنيا وهي استقامة أحوال الجماعة وانتظام المدنية ورحمة الآخرة وهي الفوز بالنعيم الدائم كقوله تعالى:{ من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فنلحيينه حياةً طيبةً ولنجزينهم أجرهم بأحسن ماكانوا يعملون}[ النحل: 97] .
وقولُه:{ من ربكم} ترغيب للمؤمنين وتخويف للكافرين .
و{ لقوم يؤمنون} يتنازعه ( بصائر ) و ( هدى ) و ( رحمة ) لأنه إما ينتفع به المؤمنون ،فالمعنى هذا بصائر لكم وللمؤمنين ،و{ هدى ورحمة لقوم يؤمنون} خاصة إذ لم يهتدوا ،وهو تعريض بأن غير المؤمنين ليسوا أهلاً للانتفاع به وأنهم لهواً عن هديه بطلب خوارق العادات .