وأوضح سبحانه إذاءهم للناس بأنهم لا يرتبطون بعهد مع الناس قط ، فهم لا يشعرون بحق لغيرهم ولو بعقد التزموه أو عهد أبرموه فهم جائرون بائرون في تفكيرهم وإنسانيتهم ؛ ولذا قال تعالى:
{ الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُون} .
{ الذين} في هذه الآية بدلا من{ الذي كفروا} في الآية السابقة ، فهذا وصف من أوصافهم ، وحال من أحوالهم ، وأوضح ما كان ذلك في اليهود الذين جاءوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة فهم الذين عاهدوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونقضوا عهده ؛ ولذلك يقول تعالى:{ الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ} وإذا كانت واضحة في اليهود ، ولم يكن للمشركين إلا عهد الحديبية ، وقد نقضوه ، فيصح أن يكونوا عاهدوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونقضوه ، ولكن لم يتكرر نقضهم ؛ ولذا نقول:إن البدل في الذين عاهدتهم ليس بدل كل من كل ، بل بدل بعض من كل .
واليهود عاهدوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتكرر النقض فقد عاهدهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أول إقامته عهد تعاون على البر والتقوى ، ونقضه بنو قينقاع عقب وقعة بدر الكبرى ، ثم أبرمه مرة ثانية بنو النضير حتى اضطر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى إجلائهم ، حتى يقيم في المدينة ( والجنة تجاوره ) ، ثم كانت الممالأة للمشركين ، ومكانتهم للمشركين ، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم في الشديدة في غزوة الأحزاب ، وقد تألبت عليه الجزيرة العربية كلها وتحزبت عليه ، وقد جاءوا ليقتلعوا الإسلام من المدينة فرد الله الذين كفروا بغيظهم ولم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال .
ثم قال تعالى:{ وهم لا يتقون} أي هؤلاء الذين ينقضون العهد ، في كل مرة يعاهدون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ( لا يتقون ) وقد أطلق عدم الاتقاء فلم يذكر أنهم يتقون الله ، أو يتقون أذى الناس ، أو يتقون نقض فهو سبحانه أطلق عدم الاتقاء ، أي من صفاتهم التقوى وتقدير الأمور ، وتقدير معنى الوفاء بالعهد ، فإنه لا يصح نقض العهد لأي سبب ؛ لأنه يفقد الثقة ، وفقد الثقة يؤدي إلى ضعفهم ، ولقد قال تعالى:{ وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون ( 91 )} ( النحل ) .
ولا شيء يضعف الجماعات أكثر من النكث في العهود ؛ لأن الناس لا يثقون ، ويكونون جميعا إلبا لبعض ، وتعد فاسدة الأخلاق ، ولا تكون لها قوة أبد .
وقد رأينا ذلك في الدول في الماضي ، ونراه الآن ؛ ولذا يقول تعالى:
{ وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا ( 43 )} ( الإسراء ) .