الأسرى:
مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( 67 ) لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( 68 ) فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( 69 ) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( 70 )
كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يريد أن يستبقي المقاتلين من أعدائه رجاء أن يكونوا للحق أو أن يكون من ذريتهم من يعبد الله تعالى ، كان يقول صلى الله عليه وآله وسلم في حروبه لقواده:( لأن تأتوني بهم مؤمنين ، خير من أن تأتوني بنسائهم وذرياتهم سبايا مأسورين ) ( 1 ){[1187]} ، فكان يحب الإبقاء على مقاتليه بدل إبادتهم ، ولذا كان لا يبيد الخسيس ، فلما انهزم المشركون أسر منهم بدل أن يقتلهم ، وقد كره سعد بن معاذ الأمر عندماوقع ، وقد كان يحرس عريش النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وذكر ذلك وقال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم:إن هذه أول واقعة بيننا وبين المشركين فما أحب أن أأسر قبل أن نثقلهم بالجراح ، وجاء القرآن الكريم بذلك النظر فقال تعالى:
{ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} .
أي ما ساغ لنبي ، أمره الله تعالى بالجهاد لجعل كلمة الله أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض حتى يثقلهم بالجراح بحيث لا يستطيعون أن يقفوا للحرب مرة ثانية ، فالاثخان المبالغة في الجراح ، حتى يثقلوا عن استئناف القتال ، وتكون المعركة شافية لا تبقي من باقية ، وذلك حتى لا يتجمعوا لكم من بعد في وقت قريب ، كما فعلوا في أحد ، وحتى لا تثقلوا أنتم بإطعام الأسرى ، وقد يكون ذلك عليكم عسيرا ، وإطعامهم لا بد منه ، ولذا يقول تعالى في أوصاف المؤمنين:{ ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا قف ( 7 )} ( الإنسان ) ، ولكي يسد باب الخديعة والنفاق ، كما حدث من بعض الأسرى .
لهذا كان النفي الذي يتضمن نهيا مؤكدا ، عن أن يكون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أسرى ، والآية كما تضمنت النهي عن أخذ أسرى قبل أن يثخن في الأرض ، ويثقل العدو حتى لا يتحرك إليه عن قريب ، لما نهى عن ذلك نهى عن أخذ الفدية ، في حال عدم الإثقال ؛ ولذلك قال تعالى:{ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ} ، أي تريدون عرض الدنيا بالمال تأخذونه ، وقد برروا أخذ الفداء بأن يكون قوة للمؤمنين ، والله سبحانه وتعالى يريد الآخرة ، أي يريد ما يكون نصرا غالبا مؤزرا يؤدي إلى إرضائه سبحانه .
وقصة إشارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالفداء كانت بشورى أشار بها بعض كبار المؤمنين الصديقين ، وإليك الخبر كما جاءت به كتب السنة والسيرة في أصح أخبارها .
لما كان يوم بدر جيء بالأسرى ، وفيهم العباس فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:( ما ترون في هؤلاء الأسرى ) ، فقال أبو بكر:قومك وأهلك استبقهم لعل الله أن يتوب عليهم ، وقال عمر:كذبوك وأخرجوك وقاتلوك ؛ قدمهم فاضرب أعناقهم .
وقال عبد الله بن رواحة:انظر واديا كثير الحطب فأضرمه عليهم .
فدخل رسول اله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولم يرد عليهم مسغيا ، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال:( إن الله ليلين قلوب رجال منه حتى يكون ألين من اللبن ويشدد قلوب 'رجال حتى يكون أشد من الحجارة ، ومثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال:{ فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ( 36 )} ( إبراهيم ) ، ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى إذ قال:{ إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ( 118 )} ( المائدة ) .
ومثلك يا عمر مثل نوح إذ قال:{ رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ( 26 )} ( نوح ) ، ومثلك يا عمر مثل موسى عليه السلام إذ قال:{ ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ( 88 )} ( يونس ) .
اختار النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذ الفداء ، لأنه أرفق ، ولأنه رأى فيه تقوية المؤمنين ، بالمال يأخذه منهم ، وتقوية للمؤمنين بتعليم الأميين من الصحابة إذ كان من يقرأ ويكتب من الأسرى وليس معه مال ، تكون فديته بتعليم بعض المؤمنين ، ولقد من على العاجزين عن الأمرين ممن رجا فيه خيرا .
نزلت هذه المعاتبة بعد ذلك ، فبكى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وبكى معه صاحبه في الغار ، وصديق هذه الأمة وقالوا:( إن القرآن نزل برأي عمر ) ( 1 ){[1188]} .
ونحن نرى أن القرآن نزل برأي سعد بن معاذ ، وروي أنه وافق سعدا الفاروق عمر ، وعبد الله بن رواحة ؛ لأن العتاب ابتداء ما كان متجها إلى أخذ الفداء ، إنما كان متجها ابتداء إلى أخذ الأسرى قبل أن يثخن في الأرض ، أما الفداء فلا لوم فيه ، وقد جاء به القرآن في نظام الأسرى ، فقال تعالى:{ حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها ( 4 )} ( محمد ) .
وهنا يسأل سائل لماذا لم يعلم الله رسوله الحق قبل أن يقع في الخطأ بدل أن يتركه يخطئ ، ثم يعتب عليه والجواب عن ذلك أن حكمة الله تعالى في أقواله وأفعاله بالغة ، فإن في ذلك تعليم لنا ومنع لغرورنا ، إن هذا يبين أن هذا النبي المختار المصطفى إذا ترك في أمر قد يقع في الخطأ والوحي ينزل ، أو تعرض للخطأ ، وإن كل إنسان عرضة للخطأ ، وإن العقل يعجز عن إدراك الحقائق كاملة ، وبيان فساد حكم الطغاة الذين ينفردون بالحكم ، ويحسبون أنهم لا يخطئون ، وبجوارهم فئة المنافقين الضالين المضلين الذين يأكلون السحت مما يتساقط من أموالهم التي هي سحت كلها ، إن هذا رسول الله وسيد الخلق المصطفى إذا ترك من غير وحي في أمر تشريعي ، كان عرضة للخطأ وقد أخطأ فكيف بكم أيها الطغاة الذين قمتم للشر وقام بنيانكم على الشر .
ثم ختم الله تعالى الآية بقوله:{ والله عزيز حكيم} أي أنه هو العزيز الذي أعطاكم العزة والرفعة في هذه وجعل لكم قدرة على الأسر بعد أن كنتم قليلين مغلوبين يتخطفكم الناس في الأرض ، وقد فعل ذلك بمقتضى حكمته .
ثم بين سبحانه أنهم معفوون من خطئهم ، فقال تعالت كلماته:
{ لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} .