/م67
والفعل «يثخن » مأخوذ من «الثِخَن » على زنة «المِحَن » ومعناه في الأصل الضخامة والغلظة والثقل ،ثمّ استعمل هذا اللفظ بمعنى الفوز والقوّة والنصر والقُدرة ،للسبب المذكور آنفاً .
وقال بعض المفسّرين: إنّ معنى ( حتى يثخن في الأرض ) يدل على المبالغة والشدّة في قتل الأعداء ،وقالوا: إنّ معنى ذلك أن أخذ الأسرى ينبغي أن يكون بعد مقتلة عظيمة في الأعداء ولكن مع ملاحظة كلمة «في الأرض » والالتفات إِلى جذر هذه الكلمة الذي يعني الشدّة والغلظة ،يتّضح أن معنى الآية ليس هو ما ذكروه ،بل القصد هو التفوق على العدو تماماً وإظهار القوّة والقدرة وإحكام السيطرة على المنطقة .
إلاّ أنّه لمّا كان في قتل الأعداء وإبادتهم دليل على السيطرة وإحكام مواقع المسلمين أحياناً ،فإنّ من مصاديق هذه الجملة في بعض الشروط قتل الأعداء ،وليس هو مفهوم الجملة الأصيل .
على أية حال ،فإنّ الآية تنبه المسلمين إِلى نقطة مهمّة في الحرب ،وهي أنّ عليهم عدم التفكير والانشغال بأخذ الأسرى قبل اندحار العدوّ بالكامل ،لأنّ بعض المسلمين المقاتلينكما يستفاد من بعض الرّواياتكان جلّ سعيهم هو الحصول على أكبر عدد من الأسرى في ساحة بدر مهما أمكنهم ،لأنّ العادة كانت أن يُدفع عن الأسير مبلغ من المال على شكل فدية ليتم الإِفراج عنه بعد نهاية الحرب .
ويعدّ هذا الأمر عملا حسناً في بعض المواقع ،إلاّ أنّه عمل خطير قبل أن يطمأن من اندحار العدو كاملا ،لأنّ الانشغال بأسر العدو وشدّ وثاقهم ونقلهم إِلى مكان آمن ،كل ذلك يبعد المقاتلين غالباً عن أصل الهدف الذي من أجله كانت الحرب ،وربّما يمنح العدو الجريح فرصة لجمع قواه وإعادة هجومه ،كما حدث في غزوة أحد ،حيث شغل بعض المسلمين أنفسهم بجمع الغنائم ،فاستغل العدوّ هذه الفرصة فأنزل ضربته الأخيرة بالمسلمين .
وبناءً على ذلك فإنّ تأسير الأعداء يجوز في صورة ما لو حصل اليقين بالنصر الساحق عليه ،أمّا في غير هذه الصورة فيجب توجيه الضربات الشديدة والمتتالية لهدم قوات العدو وشلّها فإذا حصل الاطمئنان بذلك فإنّ الأهداف الإِنسانية توجب إيقاف القتل والاكتفاء بأسرهم .
وقد أوضحت الآية هاتين النقطتين المهمتين: العسكرية ،والإِنسانية ،في عبارة موجزة:
ثمّ ألقت باللوم على أُولئك الذين خالفوا هذا الأمر فتقول: ( تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة ) .
«والعرض » يعني الأُمور غير الثابتة ،ولما كانت الذخائر المادية غير ثابتة في هذه الدنيا فقد عُبّر عنها بالعرض .
وكما قلنا آنفاً فإن الاهتمام بالجانب المادي فيما يتعلق بالأسرى والغفلة عن الهدف النهائي ،أي الانتصار على العدو ،لا أنّه يحبط الثواب الأُخروي فحسب ،بل يسيء إِلى الانسان في حياته الدنيا وإِلى عزّته ورفعته واستقراره ،ففي الحقيقة ،هذه الأهداف المذكورة للفرد في الحياة الدنيا تعدّ من أُمور الدنيا الثابتة ،فلا ينبغي أن نترك المنافع الطويلة الأمد والمستقبلية رهن الخطر من أجل أن نحصل على منافع مادية عابرة !
وتُختتم الآية بالقول إن التعليم آنف الذكرفي الواقعمزيج من العزة والنصر والحكمة والتدبير ،لأنّه صادر من قبل الله تعالى ( والله عزيز حكيم ) .
/خ68