{أَسْرَى}: جمع أسير .الأسر: الشدّ على المحارب وأخذه .
{يُثْخِنَ}: الثخنبالكسر فالفتحالغلظ ،ومنه قولهم: أثخنته الجراح وأثخنة المرض .قال الراغب في المفردات: يقال: ثخن الشيء فهو ثخين إذا غلظ فلم يسل ولم يستمر في ذهابه ،ومنه استعير قولهم: أثخنته ضرباً واستخفافاً ،قال الله تعالى:{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} ،{حَتَّى إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ الْوَثَاقَ} [ محمد:4] ،فالمراد بإثخان النبي في الأرض استقرار دينه بين الناس كأنه شيء غليظ انجمد فثبت ،بعدما كان رقيقاً سائلاً مخشيّ الزوال بالسيلان .
{عَرَضَ}: العرض ما يطرأ على الشيء ويسرع فيه الزوال ،ولذلك سمي به متاع الدنيا لدثوره وزواله عما قليل .
مناسبة النزول
جاء في مجمع البيان: «كان القتلى من المشركين يوم بدر سبعين ،قتل منهم علي بن أبي طالب( ع ) سبعة وعشرين .وكان الأسرى أيضاً سبعين ولم يؤسر أحد من أصحاب النبي( ص ) ،فجمعوا الأسارى ،وقرنوهم في الحبال ،وساقوهم على أقدامهم .وقتل من أصحاب رسول الله تسعة رجال منهم سعد بن خيثمة .وكان من النقباء من الأوس .وعن محمد بن إسحاق قال: استشهد من المسلمين يوم بدر أحد عشر رجلاً ،أربعة من قريش وسبعة من الأنصار ،وقيل ثمانية ،وقتل من المشركين بضعة وأربعون رجلاً .وعن ابن عباس قال: لما أمسى رسول الله( ص ) يوم بدر والناس محبوسون بالوثاق ،بات ساهراً أول الليلة ،فقال له أصحابه: ما لك لا تنام ؟فقال( ص ): سمعت أنين عمي العباس في وثاقه فأطلقوه فسكت ،فنام رسول الله( ص ) .وروى عبيدة السلماني عن رسول الله( ص ) أنه قال لأصحابه يوم بدر في أسارى: إن شئتم قتلتموهم وإن شئتم فاديتموهم ،واستشهد منكم بعدتهم .وكانت الأسارى سبعين ،فقالوا: بل نأخذ الفداء فنستمتع به ،ونتقوى به على عدونا ،وليستشهد منا بعدتهم .قال عبيدة: طلبوا الخيرتين كلتيهما ،فقتل منهم يوم أُحد سبعون .وفي كتاب علي بن إبراهيم: لما قتل رسول الله( ص ) النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط ،خافت الأنصار أن يقتل الأسارى ،فقالوا: يا رسول الله ،قتلنا سبعين وهم قومك وأسرتك ،أتجذّا أصلهم[ 3] ،فخذ يا رسول الله منهم الفداء ،وقد كانوا أخذوا ما وجدوه من الغنائم في عسكر قريش ،فلما طلبوا إليه وسألوه نزلت الآية{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} »
القرآن يثير مسألة الأسرى في بدر
لقد جاءت هذه الآيات لتثير قضية الأسرى في معركة بدر ،من حيث المبدأ في شرعية ما قام به المسلمون من أسر المشركين من أجل الحصول على الفدية ،في الوقت الذي كان الهدف من المعركة هو تحطيم قوة الشرك ؛ثم لتتحدث عن بعض التفاصيل الفرعية في الحديث عن الأسرى .
{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} .هذا تنديدٌ من الله بالمسلمين الذين قاتلوا في بدر ،وما قاموا به من أسر الكثيرين من المشركين ،وعدم اللجوء إلى قتلهم في المعركة ،وذلك من أجل الحصول على الفداء ،ليستفيدوا به في تقوية أنفسهم مالياً .وتلك نقطة ضعفٍ يسجلها الله عليهم في هذا الاتجاه ،فإن المقاتل الذي يشعر بخطورة القوة الكبرى المهيمنة على شؤون الناس بالظلم والسيطرة ،لا يعيش في المعركة هاجس النفع المادي ،بقدر ما يعيش هاجس القضاء عليها ،بالقضاء على كل رموزها لئلاّ تكون فتنة ويكون الدين لله ...لا سيّما في المرحلة الصعبة التي خاض فيها المسلمون المعركة غير المتكافئة ضد قريش وانتصروا فيها ،ممّا يفرض التفكير في إضعاف أيّة مبادرةٍ مستقبليةٍ لمعركةٍ جديدةٍ ،في ما يمكن أن تفكر به قريش من هجومٍ جديد ثأراً لنفسها .ولكنها التجربة الأولى للمسلمين الذين كانوا يخوضون فيها معركة الوجود واللاوجود للإسلام .فخاضوها على الطريقة التي كانوا يخوضون فيها معاركهم الخاصة سابقاً ،في قتل البعض ،والإبقاء على البعض الآخر من أجل الفداء ،فكانت هذه الآية تناقش المسألة من زاوية المصلحة الإسلامية العليا في حركة الأنبياء ،فليس للنبي الداخل في معركةٍ من معارك الإيمان والكفر ،أن يكون له أسرى ،حتى يتمكن في الأرض ويستقر ويثبِّت أقدامه ،لينطلقبعد ذلكمن موقع قوة ،بعيداً عن إمكانات التحرّك المضاد من قِبَل الأعداء .
{تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} الذي يزول بسرعة{وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخرةَ} فهي التي ينبغي لهم أن يستهدفوها في معاركهم ،تحقيقاً لمرضاة الله بتحقيق غاياته التي أقام عليها حركة المعركة ،فإن المؤمن يريد ما يريده الله ،ويحب ما يحبه ،ويتجرد عن النوازع الذاتية والمنافع الشخصية ...{وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} فلا يُغلب في ما يريده ،ولا يعبث في ما يشرّعه من أحكام وما يبيِّنه من تعاليم ...