يوم حنين:
قال تعالى:
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ( 25 ) ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ ( 26 ) ثُمَّ يَتُوبُ اللّهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَن يَشَاء وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( 27 ) .
المواطن:جمع موطن ، وهو مكان الحرب ، الذي توطن فيه النفوس على القتال ، وهو كمال قال الزمخشري:ومواطن الحرب ، مقاماتها ، ومواقفها ، قال الشاعر:
وكم موطن لولاي طحت كما هوى بأجرامه من قلة النيق منهوى ( 1 ){[1218]}
والمواطن الكثيرة:بدر ، وجلاء بني قينقاع ، والنضير ، وقريظة والأحزاب ، والحديبية ، وخيبر ، وفتح مكة ، وذكر أيضا أحد ، فما انهزم المسلمون ولكن أصابهم قرح ، ومؤتة ، فالمسلمون فيها قتلوا من الرومان مقتلة عظيمة ، وما فروا ، ولكن عادوا ليستعدوا أمام مائتي ألف ، ثم عاودوهم من بعد في تبوك فمن الله تعالى على المسلمين ، أو بالأحرى المؤمنين – بالنصر في هذه المواطن ، وقد هداهم الله تعالى إليه وأمدهم بالملائكة ؛ لأن قلوبهم كانت مستعدة لتجلي الملائكة ، وإمدادهم بهم .
وذكر سبحانه يوم حنين ؛ لأن قلوب الكثرة من المسلمين لم تكن مستعدة لهذا التجلي الملائكي ، وعبر سبحانه بيوم حنين ، ولم يعبر بغزوة حنين ؛ لأن هذه الغزوة كان لها دوران:دور يوم حنين وهو الذي جرح فيه المسلمون ، والدور الثاني الذي انفرد به المهاجرون والأنصار فكان النصر وكان تأييد الملائكة .
والعبرة كانت في يوم حنين إذ أعجبتهم كثرتهم ، أي أدخلت في نفوسهم العجب كثرتهم ، وقالوا لن نغلب اليوم ، وقد حسبوا أن النصر بالكثرة العددية ؛ ولذا قال تعالى:{ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا} أي فلم تغن عنكم شيئا من النصر ، بل كانت الكثرة سببا في الهزيمة ، وإن لم تكن هي النهاية ، وصور الله سبحانه وتعالى هذه الهزيمة المؤقتة بقوله تعالى:{ وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} أي أنه سدت عليكم المسالك ، إذ نزلوا بوادي حنين ، ولم يستطيعوا ، وتسلط مع ضيق المسالك الخوف ، إذ كان فيهم من لم يمرسوا بقتال الإيمان ، وربما كان منهم من أسلم ولما يدخل الإيمان قبله ، قال تعالى:{ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} والخطاب للمجموع فإن الذين فعلوا ذلك ليسوا هم المؤمنين من المهاجرين والأنصار ، إنما أكثر من فعل ذلك من الطلقاء وأبناء الطلقاء ، الذين بلغ عددهم في ذلك الجيش نحو ألفين ، وفيهم من أسلم بعد الحديبية ، ولم يكن فيهم إيمان الأنصار والمهاجرة .
والتعبير ب{ ثم} للإشارة إلى البعد المعنوي بين إرادة النصر والفرار ، وقوله تعالى:{ وليتم} إشارة إلى أنهم عند الصدمة الأولى أعرضوا عن القتال ، وفروا مدبرين تاركين أقفيتهم للعدو ، تعمل فيها سيوفهم .
هذه إشارات إلى يوم حنين ، ولنذكره ببعض التفصيل ليعلم من الذين ولوا ، ويتبين من الذين أجرى الله تعالى النصر على أيديهم .
( حنين ) واد بين مكة والطائف ، وأساس القصة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد فتح الله عليه مكة ، وأسلم الأكثرون وأطلق الطلقاء بلغه أن هوازن وثقيفا تعد العدة لقتاله ؛ لأنهم توقعوا أنهم الأدنون الذين يجيء إليهم جيش الحق ، وجمعوا جيشا كثيفا ، عدته أربعة آلاف على أرجح الروايات ، من هوازن وثقيف ، وانضم إليهم بنو سعد ابن بكر ، وأوزاع من بني ( هلال ) ، وقد أقبلوا ومعهم النساء ، والولدان ، والأموال من النعم والشاة وجاءوا بقضهم وقضيضهم .
خرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالجيش الذي كان معه لفتح مكة ، وانضم إليهم من الطلقاء ألفان فكانت عدته اثنا عشر ألفا .
ولم يكونوا جميعا من المؤمنين أمثال الذين قاتلوا في بدر وأحد ، والمغازي الإسلامية التي قاتل فيها المؤمنون ، بل كان فيهم المؤلفة قلوبهم الذين دخلوا في الإسلام وهم حديثو عهد به .
جاءت هوزان مدفوعة بحمية الدفاع عن النفس ، وجاء المسلمون ولم يكونوا على قلب رجل واحد ، بل كان فيهم من توسوس له نفسه أن يغدر بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد بادر أهل الطائف فرشقوا المسلمين ومن معهم بالنبال ، وأصلتوا في الوادي الذي يسمى حنينا ، وجاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وكانت هوازن ومن معها قد كمنت في جنبتي الوادي وهجمت على المسلمين الذين دخلوا في بطن الوادي هجمة رجل واحد ، واضطرب المسلمون ، ولم يعرف أحدا أحدا ، وبذلك ضاقت عليهم الأرض بما رحبت إذ قد تهيأت هوازن ومن معها في مضايق الوادي وأحنائه .
ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ناحية من الأرض قد ثبت ، وثبت معه المؤمنون ، من المهاجرين والأنصار ، وأخذ ينادي المسلمين ، ولكن انكفأ بعضهم على بعض ، وكما قال الحافظ ابن كثير في تاريخه:( انحط بهم الوادي في عماية الصبح ، وثارت في وجوههم الخيل فشددت عليهم ، وانكفأ الناس متهربين لا يقبل أحد على أحد ، وانحاز رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات اليمين يقول:( أيها الناس هلم إلي أنا رسول الله ، أنا محمد بن عبد الله ) ، فلا شيء ، وركبت الإبل بعضها بعضا ، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك قال:( يا عباس ، اصرخ يا معشر الأنصار ) ، فأجابوه:لبيك لبيك ذهب الأنصار في هذا المضطرب مجيبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعه بعض أهله الأدنين ، معه عمه العباس ، وهو آخذ بلجام دابته ، وابن عمه أبو سفيان بن الحارث ، وابنه جعفر ، وعلي بن أبي طالب ، وأسامة بن زيد ، وأيمن بن عبيد ، وربيعة بن الحارث ، والفضل بن عباس وقثم بن العباس ، فهؤلاء عشرة من أقارب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعهم وزيرا النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
كان هؤلاء الثابتون وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان إذا حمى الوطيس أحاطوا به واتقوا حر القتال بالإيواء إليه ، والنبي ينادي المؤمنين ، والعباس جهير الصوت يصرخ في المؤمنين داعيا أهل البيعة التي كان بعدها الهجرة ، فلما أحاط بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم المهاجرون والأنصار من الأوس والخزرج تغير وجه القتال وتجرد أهل الإيمان للمشركين ، بعد أن ماز الله الخبيث من الطيب ، وانفصل الذين لا يزال في قلوبهم رجس ، أو أسلموا ، ولما يؤمنوا .