التّفسير
الكثرة وحدَها لا تجدي نفعاً:
في الآيات المتقدمة رأينا أنّ الله سبحانه يدعوا المسلمين إِلى التضحية والجهاد على جميع الصُعد في سبيل الله وقلع جذور الشرك وعبادة الأوثان ،ويهدد بشدّة من يتقاعس منهم عن الجهاد والتضحية بسبب التعلق بالأزواج والأولاد والأرحام والعشيرة والمال والثروة .
أمّا الآيات محل البحث فتشير إِلى مسألة مهمّة ،وهي أنّ على كل قائد أن ينّبه أتباعه في اللحظات الحساسة بأنّه إذا كان فيهم بعض الأشخاص من ضعاف الإيمان والذين يحجبهم التعلّق بالمال والولد والأزواج وما إلى ذلك عن الجهاد في سبيل اللّه ،فلا ينبغي أن يقلق المؤمنون المخلصون من هذا الأمر ،وعليهم أن يواصلوا طريقهم ،لأنّ الله لم يتخلَّ عنهم يوم كانوا قلةً ،كما هو الحال في معركة بدر ،ولا يوم كانوا كثرةًملء العين ( كما في معركة حنين ) وقد أعجبتهم الكثرة فلم تغن عنهم شيئاً ،لكن اللّه سبحانه أنزل جنوداً لم تروها ،وعذب الذين كفروا ،فالله في الحالين ينصر المؤمنين ويرسل إليهم مدده ...
لهذا فإن الآية الأُولى من الآيات محل البحث تقول ( لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ) .
والمواطن جمع الموطن ،ومعناه المحل الذي يختاره الإِنسان للسكن الدائم ،أو المؤّقت ،إلاّ أن من معانيه أيضاً ساحة الحرب والمعركة ،وذلك لأنّ المقاتلين يقيمون في مكان الحرب مدّة قصيرة أو طويلة أحياناً .
ثمّ تضيف الآية معقبةً ( ويوم حنين إذا أعجبتكم كثرتكم ) وكان جيش المسلمين يوم حنين زهاء اثني عشر ألفاً ،وقال بعض المؤرخين: كانوا عشرة آلاف أو ثمانية آلاف ،غير أنّ الرّوايات المشهورة تؤيد ما ذكرناه آنفاً ،إذ تقول: إنّهم كانوا اثني عشر ألفاً ،وهذا الرقم لم يسبق له مثيل في الحروب الإِسلامية قبل ذلك الحين ،حتى اغتر بعض المسلمين وقالوا: «لن نغلب اليوم » .
إلاّ أنّهكما سنبيّن الموضوع في الحديث على غزوة حنينقد فرّ كثير من المسلمين ذلك اليوم ،لكونهم جديدي عهد بالإِسلام ولم يتوغل الإِيمان في قلوبهم فانكسر جيش المسلمين في البداية وكاد العدوّ أن يغلبهم لولا أن الله أنزل بلطفه مدده وجنوده فنجّاهم .
ويصور القرآن هذه الهزيمة بقوله ( وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثمّ وليتم مدبرين ) .
/خ27