إن الجهاد تجرد لله تعالى ، وصدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ جعل المجاهد كالراهب متجردا من أهله وماله ، وسكنه ، وتجارته ، فقال عليه الصلاة والسلام:( لكل أمة رهبانية ، ورهبانية أمتي في الجهاد ) ( 1 ){[1216]} ، وإنه ، كقوله تعالى:{ قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ( 24 )} .
الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم آمرا أمته بالجهاد محرضا على التجرد له ، والانقطاع له ، لا يشغله قلبه إلا أن ينتصر لله ورسوله ويعتز بأهل الإيمان{ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ} والعشيرة هي الجماعة المتناصرة المتوالية ، وهم الأقربون ، ومن يدانونهم ،{ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا} أي اكتسبتموها مقتطعين لها ؛ لأن الاقتراف معناه الاقتطاع{ وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا} ، أي ثمينة لها أوقات تخشون ألا تروج في وقتها ،{ وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا} ، أي ترضون مناخها ، وحدائق ترعونها ،{ أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ} ، أي تؤثرون المعيشة الرافهة الفاكهة عن طاعة الله ورسوله{ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ} في سبيل الله تنالون به العزة ، وتبعدون به الذلة{ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ} أي ترقبوا ، حتى تنزل المذلة إذا استرخيتم تحت ظل النعيم ، وعند الاسترخاء والاستنامة للراحة يكون القعود عن الجهاد ، ولقد توقع خليفة رسول الله ذلك ، إذ قال رضي الله عنه:( لتألمن على الصوف الأزربي كما يتألم أحدكم من النوم على حسك السعدان ) ، ولقد كان ذلك عندما وجدوا الدمقس والحرير ، وجلسوا على عرش كسرى ، وجاءتهم غنائم من الأندلس والصين ، عندئذ كان الترفه والتنعم ، والارتماء في أحضان القيان ، وكثرت الأغاني ، ورق الذوق ، وحين كان ذلك لا تكون عزيمة ، ولقد قال الزمخشري في ذلك:هذه آية شديدة ، وهي قوله:{ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ} ، كأنها تنعى على الناس ما هم عليه من رخاوة لهذا الدين ، واضطرب حال اليقين ، فلينصف أورع الناس وأتقاهم من نفسه هل يجد عنده من التصلب في ذات الله والثبات على دين الله ما يستحب له دينه على الآباء والبناء والإخوان والعشائر والمال والمساكن وجميع حظوظ الدنيا ، ويتجرد منها لأجله أم يزوى الله عنه أحقر شيء منها لمصلحة ، فلا يدري أي طرفيه أكول ، ويغريه الشيطان عن أجل حظ من حظوظ الدين فلا يبالي كأنما وقع على أنفه ذباب فطيره .
هذه حال الناس في عهد الزمخشري ، يوم تقاتل المسلمون ، واستبدل الملوك بالجهاد في سبيل الله القتال بينهم فصار بينهم شديدا ، ونسوا الجهاد حتى جاءهم من لا يرحمهم . جاء الصليبيون من أوروبا وجاءهم التتار من الصين ففرقوهم شذر مذر .
ولقد توقع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك ، فقال:( يوشك أن تداعى عليكم الأمم تتداعى الأكلة إلى قصعتها ) ، قالوا أو من قلة نحن يومئذ يا رسول الله ؟ قال:( بل أنتم كثير ، ولكن غثاء كغثاء السيل ، ولينزعن الله من قلوب عدوكم المهابة ، وليرزقنكم الوهن ) قالوا:وما الوهن ؟ قال:( حب الدنيا وكراهية الموت ) ( 1 ){[1217]} اللهم حبب إلى قلوبنا الإيمان ، وان يكون الله ورسوله وجهاد في سبيله أحب إلينا من آبائنا ، وأبنائنا ، وأزواجنا ، وعشيرتنا ، وأموالنا ، وتجارتنا ، ومساكننا ، وكل حظوظنا ، فإن ذلك إن كان ، فقد وهبت العزة وصارت تحت أقدامنا حظوظ الدنيا .