/م23
ثم انتقل من بيان هذه الدركة من الإخلال بحقوق الإيمان ومقتضياته إلى الدركة التي من شأنها أن تكون سببا لها ، فقال{ قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره} .
وجّه الله عز وجل الخطاب في النهي عن الجريمة الكبرى وهي ولاية الكافرين المعادين لله ورسوله إلى المؤمنين بعنوانهم مباشرة ، ثم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخاطبهم في أمر الجريمة الثانية والوعيد عليها على فرض وقوعها منهم ، ولم يشأ أن يعطف هذا على ما قبله فيكون خطابا منه بعنوان صفة الإيمان المنافي لمضمونه ، ولذلك عبر عنه بأداة الشرط التي من شأن شرطها أن يكون مشكوكا في وقوعه ، أو من شأنه أن لا يقع ، وهي«إن » ، ولم يرتب هذه المؤاخذة على أصل الحب لما ذكر في الآية من مجامع حظوظ الدنيا ولذاتها ؛ لأنه غريزي ، بل رتبه على تفضيل هذه الحظوظ والشهوات الدنيوية في الحب على حب الله ورسوله والجهاد في سبيله الموعود عليه بما تقدم آنفا من أنواع السعادة الأبدية في الآخرة ، وكذا ما دونه كما يدل عليه تنكير كلمة جهاد هنا .وذكر الأبناء والأزواج هنا دون آية النهي عن الولاية ؛ لأن من شأن الإنسان أن يتولى في الحرب من فوقه كالأب ومن هو مثله كالأخ دون من هو دونه ، ومن شأنه أن يكون تابعا له كابنه وزوجه ، ولكنهما في المرتبة الأولى في الحب ، وإننا نبين مراتب هذه الأصناف الثمانية في الحب ، ونقفي عليها بمعنى حب الله ورسوله ، وكون المؤمن الصادق لا يؤثرعليهما شيئا منها ، ولا يعلو حبهما عنده حب شيء سواهما:
1 حب الأبناء للآباء له مناشئ من غرائز النفس وشعورها وعواطفها وعوارفها ومعارفها وطباعها ، ومن عُرف الأقوام وآدابهم الاجتماعية وشرائعهم ودينهم ، فالولد بضعة من أبيه يرث بعض صفاته وطباعه وشمائله من جسدية ونفسية وعقلية ، وأول شيء يشعر به ، وينمي في نفسه بنماء تمييزه وعقله إحسان والديه إليه ، واقتران صورتهما في خياله بكل محبوب له .ويتلو هذا شعوره بما هما عليه من الحنان والعطف والحدب عليه والحب الخالص له الذي لا يشوبه رياء ولا تهمة ، وللوالدة القدح المعلى في هذين ، ويفوقها الوالد بما يحدث للولد بعد هذا من شعور الإعجاب بالعظمة والكمال والقدرة وهو من الغرائز ، والطفل يشعر بأن أباه أعظم الناس وأحقهم بالإجلال والتعظيم .وهذا الشعور إما أن ينمي ويزداد في الكبر إذا كان الوالد مستحقا له ولو من بعض الوجوه ، وإما أن يضعف ، ولكنه قلما يزول عينا وأثرا وإن كان في غير محله .
وقد كان العرب يتفاخرون بآبائهم في أسواقهم وفي معاهد الحج ، حتى قال الله تعالى:{ فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا} [ البقرة:200] ، يتلو ذلك شعور عزة الحماية والصيانة له من والده والذود عنه والانتقام له إذا ضيم ، وفوق هذا شعور الشرف ، فهو يشرف بشرفه ، ويحقر بضِعَته وخسته .فإن أهين بقول أو فعل ترجف أعصابه ويتبيغ دمه ، ولا تكاد تهدأ ثائرته إلا بالانتقام له .
تؤيد هذه الأنواع من الشعور والغرائز ملكات تطبعها الحقوق العرفية والآداب الاجتماعية والشرائع الدينية ، فالله تعالى قد قرن الإحسان بالوالدين بتوحيده وعبادته وحده بمثل قوله:{ وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا} [ الإسراء:23] الخ ، وقرن شكرهما بشكره في قوله:{ ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير} [ لقمان:12] ، ثم إنه أمر بمعاملتهما بالمعروف وإن كانا مشركين مع نهيه عن طاعتهما إذا دعواه إلى الشرك ، فقال{ وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا] [ لقمان:15] .
فهذه مجامع نوازع حب الولد الوالد ، والوالدة تفوقه في بعضها وتتخلف عنه في بعض .ولما كان الوالدون هم الذين يقاتلون ويحتاجون إلى الموالاة والمناصرة دون الوالدات اقتصر على ذكرهم ، تبعا لنهيه عن موالاتهم ؛ لأن موالاتهم لهم من قبيل طاعتهم في الشرك الذي نهاهم عنه ، ونصر الشرك وأهله لأجله شرك ، بل اتفق العلماء على أن الرضاء بالكفر كفر ، فكيف بنصر الكفر على الإيمان بموالاة الكافرين ونصرهم على المؤمنين ؟ ولكنه لم ينههم عن حب آبائهم المشركين ؛ بل حذرهم أن يكونوا أحب إليهم من الله ورسوله وجهاد ما في سبيله ، لأن هذا لا يجتمع مع الإيمان الصحيح كما سيأتي .كذلك نهاهم في سورة المجادلة عن موادة من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم إذا كانت لأجل المحادة كما يفيده ترتيب النهي على فعلها ، فإن المودة هي المعاملة الحبية ، والمحادة شدة العداوة والبغضاء ، فاشتراك المؤمن المحب لله ورسوله مع المحاد لله ولرسوله في المودة المرتبة على صفتيهما جمع بين الضدين ، فهو في معنى موالاتهم بل أخص منها .
2حب الآباء للأبناء له جميع تلك المناشئ الغريزية والطبيعية ، وأنواع الشعور والعواطف النفسية ، وبعض تلك الحقوق العرفية والآداب الاجتماعية والأحكام الشرعية لا جميعها ، ولكن حب الوالد للولد أحر وأقوى وأنمى وأبقى من عكسه ، وهو أشد شعورا بمعنى كون ولده بضعة منه ، وكون وجوده مستمدا من وجوده ، ويشعر ما لا يشعر من معنى كونه نسخة ثانية منه ، يرجى لها من البقاء ما لا يرجى للنسخة الأولى ، فهو يحرص على بقائه كما يحرص على نفسه أو أشد ، ويحرم نفسه من كثير من الطيبات إيثارا له بها في حاضر أمره ومستقبله ، ويكابد الأهوال ويركب الصعاب وكثيرا ما يقترف الحرام في سبيل السعي والإدخار له ، وقد بينا في تفسير{ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا} [ الأنعام:151] الآية أن عاطفة البنوة ونعرتها من أقوى غرائز الفطرة ، وناهيك بما ينميها في النفس من قيام الوالد بشؤون الولد من التربية والتعليم ، وما يحدثه ذلك من العواطف في الحال ، والذكريات في الاستقبال ، وكونه مناط الآمال ، قال الله تعالى:{ المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا} [ الكهف:42] ، قالوا المعنى أن الأعمال الصالحة التي يبقى ثوابها للإنسان بعد الحياة الدنيا خير من زينة المال فيها ثوابا ، وخير من البنين فيها أملا ، فهو نشر على ترتيب اللف .وقد بينا أسباب حب الآباء للبنين بالتفصيل في تفسير{ زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين} [ آل عمران:13] الخ .
3حب الأخوة يلي في المرتبة حب البنوة والأبوة ، والأخوان صنوان في وشيجة الرحم ، فالأخ الصغير كالولد ، والكبير كالوالد ، ويختلفان عنهما بشعور المساواة في المنبت وطبقة القرابة ، وقد يماري فيه بعض الذين أفسدت فطرتهم نزغات الفلسفة المادية فيزعمون أنه من التقاليد العادية لا منشأ له من غرائز النفس ولا مقتضيات الطبع ، بل يقول بعضهم إن عداوة الأخوة أعرق في الغريزة من محبتها ، ويستدلون عليه بما ورد في الكتب الإلهية من قتل أحد ولدي آدم لأخيه في أول النشأة ، وعهد سلامة الفطرة من تأثير التنازع في شؤون الحياة ، ومن فعلة إخوة يوسف به وهم من أسلم الناس أخلاقا وخيرهم وراثة .
والحق فيما قصه علينا الوحي من قتل قابيل لأخيه هابيل أنه بيان لما في استعداد البشر من التنازع بين غرائز الفطرة بالتعارض بين عاطفة وشيجة الرحم وحب العلو ، والرجحان والامتياز على الأقران في رغائب النفس ومنافعها ، وما قد يلد من الحسد ، وما قد يتبع الحسد من البغي والعدوان ، فضرب الله لنا مثلا لبيان هاتين الحقيقتين ليرتب عليه بيان كون غريزة الدين بل هدايته هي المهذبة للفطرة البشرية بترجيح الحق على الباطل ، والخير على الشر ، فكان قابيل مثلا لمن غلبت عليه النزعة الثانية ، وهابيل مثلا لمن غلبت عليه الأولى بترجيح هداية الدين ، وذلك قوله تعالى حكاية عنه{ لئن بسطت إليَّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العلمين إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين} [ المائدة:31 ،32] .والدليل على محبة الأخوة ووشيجة الرحم في نفس قابيل ، وتنازعها مع حب العلو والرجحان على أخيه ، أو مساواته وحسده لتقبل قربانه دونه قوله تعالى:{ فطوَّعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين} [ المائدة:33] ، فإن التعبير عن ترجيح داعية الشر المتولدة من الحسد العارض على عاطفة حب الأخوة ورحمة الرحم«بالتطويع » من أبلغ تحديد القرآن لدقائق الحقائق باللفظ المفرد ، فإن معنى صيغة التفعيل التكرار والتدريج في محاولة الشيء كترويض الفرس الجموح ، وتذليل البعير الصعب ، فهي تدل على أن قابيل كان يجد من نوازع الفطرة في نفسه الأمارة بالسوء مانعا يصدها عما زينه له الحسد من قتل أخيه ، وأنها ما زالت تأمره ويعصيها حتى حملته على طاعتها بعد جهد وعناء .وقد شرحنا هذا المعنى شرحا واسعا في تفسير الآيات ( ج 6 تفسير ) .
وقد وقع مثل هذا الحسد من إخوة يوسف:كبر عليهم إقبال أبيهم يعقوب بكل وجهه وكل نفسه على هذا الابن الصغير الذي لم يبلغ أن ينفعه أو ينفع الأسرة بخدمة ولا حماية ولا غيرها من مواضع آمال الآباء في الأبناء ، وإعراضه عنهم على قوتهم وقيامهم بكل ما يحتاج إليه الأب والأسرة ، فزين لهم الحسد أن يقتلوه أو يغربوه ليجتمع الشمل ، ويخلو لهم وجه أبيهم بالإقبال عليهم ، ويكونوا بذلك قوما صالحين بزوال سبب الشقاق والفساد فيهم ، ولكنهم بعد التشاور رجحوا تغريبه وإبعاده عن أبيه عندما أشار به بعضهم ، ولولا عاطفة الرحم وهداية الدين لما رضي العشرة برأي الواحد في ترك قتله .ولماذا نحفظ هذه الوقائع الشاذة وننسى الأمر الغالب الأعم ، وهو تواد الإخوة وتعاونهم وتناصرهم بباعث الغريزة ولوازمها ؟ ومنه ما كان من إحسان يوسف إلى إخوته ثم عفوه عنهم ثم معيشته معهم ؟
بعد هذا أذكر القارئ الذي أخاف عليه فساد الأفكار المادية المغرية بعداوة الأخوة للجهل بالدين والحرمان من هدايته ، بما هو معهود في هذه البلاد من إهمال تعليمه وتربيته ، أذكره بما لا يستطيع العالم المادي إنكاره أو المكابرة فيه من منشأ حب الأخوة في النفس ، وما تقتضيه من التواد والتناصر في نظام الاجتماع البدوي والمدني ، وهو أن المعهود من أخلاق البشر وآدابهم وعاداتهم المنبعثة عن طباعهم وغرائزهم أن المحبة والعطف فيما بينهم يكون على قدر ما بين أفرادهم وجماعاتهم من الاشتراك في صفات النفس الموروثة ، وعواطفها المكتسبة بالتربية والمعاشرة ، وفي شؤون الحياة من طبيعية واجتماعية ، وفي الحقوق والآداب الشرعية والعادية ، وللأخوة من جملة هذه الأمور ما ليس لمن دونهم من الأقارب ، بله من بعد عنهم من الأجانب ، فالأخ صنو أخيه ، منبتهما واحد ، ودمهما واحد ، ووراثتهما النفسية والجسدية تتسلسل من أرومة واحدة ، وإن تفاوتوا فيها ، وكل منهما يشعر بالاعتزاز بعزة الآخر إلا أن يفسد فطرته الحسد ، ويحفظ من ذكريات الطفولة والصبا ما له سلطان عظيم على النفس ، وتأثير كبير في آصرة الرحمة والحب ، وما زال أهل الوسط من بيوت الناس الذين سلمت فطرتهم ، وكرمت أخلاقهم ، يحبون إخوتهم كحبهم أنفسهم وأولادهم ، ويوقرون كبيرهم توقيرهم لأبيهم ، ويرحمون صغيرهم رحمتهم لأبنائهم ، ويكفلون من يتركه والده صغيرا فيتربى مع أولادهم كأحدهم ، وقد تكون العناية به أشد ، وما أطلت في هذا وما قبله هذه الإطالة النسبية إلا ليكون تفسير كتاب الله الذي أنزل لهداية الناس وإصلاح أمورهم مشتملا على ما يحتاجون إليه في هذا الزمان من درء مفاسد الفلسفة المادية القاطعة للأرحام ، المفسدة للاجتماع .
4حب الزوجية ضرب خاص من شعور النفس ليس له في أنواعها ضريب ، فهو هو الذي يسكن به اضطراب النفس من ثورة الطبيعة التي تهيجها داعية النسل ، وغريزة بقاء النوع ، وهو الذي يتحد به بشران فيكون كل منهما متمما لوجود الآخر ينتجان باتحادهما بشرا مثلهما ، وقد بيناه في تفسير{ زين للناس حب الشهوات من النساء} [ آل عمران:14] إلى آخره وفي مقالات ( الحياة الزوجية ) من المنار( المجلد الثامن ) ، وإنما قدمه هنالك على حب البنين ؛ لأن الكلام في الآية على حب الشهوات ، وهو أقوى الشهوات البشرية على الإطلاق ، وأخره هنا لأن الكلام في الحب المعارض لحب الله ورسوله والجهاد في سبيله وما يخشى من حمله على موالاة أهل الكفر في الحرب على المؤمنين ، وقلما تكون زوج الرجل معارضة له في دينه وولاية من يدين لله بولايته ، كما يعارض أبوه وابنه وأخوه من أهل الحرب دون امرأته .وروعي الترتيب الطبيعي في علاقة هذه الأصناف الخمسة بالمرء ودرجات لصوقها به في الحياة على طريقة الترقي في قوله تعالى:{ يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه} [ عبس:3436] وهذه الفروق في الترتيب بين الأشياء واختلافها في المقامات المختلفة هي من دقائق بلاغة القرآن ، التي تند عن سلائق البشر ومعارفهم في بلاغة الكلام .
5حب العشيرة حب عصبية وتعاون واعتزاز ، وولاية ونصر في القتال ، ويكون على أشده في أهل البداوة ، ومن على مقربة منهم من أهل الحضارة ، وقد أضعف الإسلام هذا النوع من الحب والولاية بالمساواة بين المسلمين في أخوة الإسلام كما بيناه في تفسير{ فإخوانكم في الدين} [ التوبة:11] من الآية الحادية عشرة من هذه السورة ، وبتحريم الدعوة إلى عصبية ، والقتال على عصبية ، كما أضعفته الحياة الحضرية التامة التي توكل فيها حماية الأفراد إلى دولة الرجل دون عشيرته وقبيله ، وتجمع العشيرة على عشيرات كما في المصباح المنير ، وبه قرأ أبو بكر وعاصم .
6حب الأموال المقترفةأي المكتسبة - طبيعي أيضا ، وهو أقوى في النفس من حب الأموال الموروثة ؛ لأن عناء الإنسان في اقترافها يجعل لها في قلبه من القيمة والمنزلة ما ليس لما جاءه عفوا ، كما هو مشهور بين الناس علما وعملا ، وقد بينا أسباب حب المال من حيث هو في تفسير آية آل عمران 13 المشار إليها آنفا .
7حب التجارة التي يخشى كسادها ، يراد به -والله وأعلم- عروض التجارة التي يخشى كسادها في حالة الحرب .وقد كان بعض المسلمين من أهل مكة تجارا كما ورد ، وكان لدى بعضهم شيء من عروض التجارة يخشى كساده في أوقات الحرب ؛ لأن أكثر مستهلكيها كانوا من المشركين ، وكانت أسواقها تنصب في أيام موسم الحج ، وقد منع منه المشركون بمقتضى الآيات السابقة واللاحقة من هذه السورة ، وناهيك بحب أبي سفيان وولده للمال وولوعه بالتجارة ، وما كان من تأليبه المشركين على قتال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر لأجل تجارته ، وقد أظهر الإسلام يوم الفتح ، ثم روي عنه أنه كان من الشامتين بهزيمة المؤمنين يوم حنين ، فتألفه النبي صلى الله عليه وسلم بكثرة العطاء من غنائم هوازن ، كما استماله يوم الفتح بقوله:« من دخل دار أبي سفيان فهو آمن »{[1505]} رواه مسلم .
8حب المساكن المرضية طبيعي أيضا ، فكم ممن لا يملك مسكنا يأويه ، أو يملك قصرا لا يرضيه ، والمراد هنا - فيما يظهر ، والله أعلم- ما كان لبعض المسلمين في مكة والمدينة من الدور الحسنة التي كانوا يرضونها للإقامة والسكنى ، بما فيها من المرافق وأسباب الراحة ، ويكونون في مدة خروجهم للجهاد محرومين منها ، وما كان لبعض آخر في مكة يعدونها للاستغلال في أيام الموسم ؛ إذ يظهر من طبيعة الأحوال أن ذلك قديم ، وهذا النوع يكون معطلا بمنع المشركين من الحج ، وهو ما بلغوه من هذه السورة .
فهذه ثمانية أنواع من حب القرابة والزوجية والمنافع والمرافق التي عليها مدار معايش الناس ، قد كان من شأنها أن تجعل القتال مكروها فوق الكره الذي تقتضيه ذاته الوحشية ، وما يلزمه من مفارقة هذه المحبوبات كلها أو بعضها ، ولذلك لم يشرع إلا للضرورة التي يرجح بها الإقدام عليه على الإحجام عنه ، كما قال تعالى:{ كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم} [ البقرة:216] الآية ، وكقوله:{ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض} [ البقرة:25] ، وغيرهما مما تقدم في تفسير هذه السورة وما قبلها من حكمة تشريع القتال ، وكونه بحسن القصد ، والشروط التي يوجبها الإسلام أعظم مزيل للفساد ، ومصلح لأمر العباد ، فراجعه إن كان غاب عنك ، فهو يفيد في فهم ما هنا .وزد عليه ما يجب إيثاره من حب الله ورسوله على كل حب ، وتقديم كل جهاد في سبيله على كل منفعة في الأرض .
أما حب الله تعالىأي حب عبده لهفهو الذي يجب أن يكون فوق كل حب ؛ لأنه سبحانه وتعالى هو المتصف وحده بكل ما شأنه أن يحب من جمال وكمال ، وبر وإحسان ، وكل من يحب في الوجود فهو من صنعه وفيض جوده وإحسانه ، ومظهر أسمائه الحسنى وصفاته ، فمن الطبيعي المعقول أن يكون حب الوالد للولد ، وما يتضمنه من عطف وأمل ، شعبة من حب واهبه ، ومودع العطف والرحمة في قلب والديه له .وأن يكون حب الولد لوالده ومربيه عندما يعقل جزءا من حب ربه الذي سخره له ، وساقه بغريزة الفطرة وحكم الشريعة لتربيته ، وهو عز وجل رب كل شيء ، المربي الحق لكل حي ، بسننه في الغرائز والقوى والأخلاق ، وما يترتب عليها من الأعمال ، وهو جل ثناؤه الخلف والعوض من كل والد ليتيمه ، ومن كل ولد لأبيه وأمه ، ومن الطبيعي المعقول أن يكون حب الأخ لأخيه كذلك بالأولى ، وكذلك حب الزوج للزوج لا يشذ عن هذه القاعدة ، فهو الذي خلق الزوجين الذكر والأنثى ، وهو الذي أودع المحبة الزوجية في الأنفس ، ولم يخصها بفرد معين{ ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة} [ الروم:19] ، وحب العشيرة أحق وأولى بالدخول في عمومها ، فإن الباعث عليه التعاون والتناصر بوشيجة القرابة ، وقد حل محلها في الإسلام ما هو أقوى وأعظم ، وهو تناصر أهل الملة الكبيرة بمقتضى أحكام الشريعة ، والله ولي المؤمنين ونصيرهم بوجه أخص ،{ وما النصر إلا من عند الله} [ آل عمران:126] بالوجه الأعم .
وكذلك الأموال بجميع أنواعها ، ومنها عروض التجارة التي يرجى رواجها ويخشى كسادها كلها من جوده وعطائه وتسخيره ، وحبها يجب أن يكون دون حبه ؛ بل هو دون ما تقدمه من الحب وإن فتن به أكثر الماديين ، وكثير من الذين حرموا تهذيب الدين ، فصارت أموالهم من أسباب شقائهم في دنياهم ، حتى إن منهم من يبخل بها عن نفسه وأهله وولده .والمساكن دون الأموال ؛ لأن صاحب المال يمكنه أن يبني منها مثل ما يفقده أو خيرا منه .وقد أغنى الله المؤمنين الصادقين عن كل ما فقدوا أو خافوا أن يفقدوا بنبذ عهود المشركين وعودة حال الحرب بينهما ، وكذّب وهْم ضعفاء الإيمان ، وإيهام المنافقين لهم بأن الجهاد في سبيل الله سبب الكساد والخسران ، وصدق وعد الله للمؤمنين باستخلافه إياهم في الأرض وتمكينهم فيها ، وجعلهم أغنى أهلها ما داموا مهتدين به ، كما وعدهم في قوله:{ وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض} [ التغابن:54] الخ ولو عادوا إلى تلك الهداية ، لعادت إليهم تلك الخلافة .
وإن فوق جميع هذه الأنواع من حبه تعالى لفضله وإحسانه - بالإيجاد والإمداد في الدنيا وتسخير قواها ومنافعها للناس- وحبه لما وعد به -مما يشبهه ولكنه يعلوه ويفوقه من الثواب في الدار الآخرة- نوعا آخر هو حب العبادة المحضة والمعرفة العليا .وقد بينا معناه وسببه في تفسير{ ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله} [ البقرة:165] ، وبينا خطأ المشركين في إشراك أندادهم معه فيه لتوهمهم أنهم وسيلة إليه وشفعاء عنده يقربون من توسل بهم إليه زلفى ، وكون المؤمنين أشد منهم حبا لله ، لأنهم أعلم بما يجب العلم به من صفات جلاله وجماله وكماله ، ومن توحده بالربوبية- ومن آثارها التدبير والنفع بالأسباب التي هو خالقها ومسخرها وبغير الأسباب إن شاءوانفراده بالألوهية ، وهي كونه هو المعبود الحق وحده ، فحبهم إياه مجتمع ثابت كامل لا شائبة للإشراك فيه ، وبينا في مقابلة هذا كون حب المشركين للأنداد بسبب ذلك الاعتقاد نهبا مقسما على معبودات متعددة .
ثم إن حب المؤمن العارف لله تعالى له درجات تتفاوت بتفاوت معارفه بآيات الله في خلقه الدالة على صفات جماله وكماله ، ومقدار إدراكه لما فيها من الإبداع والإتقان كما قال:{ صنع الله الذي أتقن كل شيء} [ النمل:88] ، وقال:{ الذي أحسن كل شيء خلقه} [ السجدة:7] ، وقد بينا هذا في تفسير قوله عز وجل:{ قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم} [ آل عمران:31] ، كما بينا فيه معنى حبه تعالى لعباده الموحدين المتبعين لما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم من النور والهدى والفرقان .وقد جهل علماء الألفاظ والتقاليد كنه هذا الحب ، فتأولوه كما تأولوا غيره من صفات الله تعالى وشؤونه الكمالية ، توهما منهم أنها تعارض تنزهه عن مشابهة الناس في صفاتهم البشرية ، فكان حظهم من معرفة ربهم وإلههم التعطيل بشبهة التنزيه- الذي هو معنى سلبي محض- ثم أعدنا بيان ما ذكر في تفسير قوله تعالى:{ يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم} [ المائدة:54] .
وأما حب رسوله صلوات الله وسلامه عليه وآله فهو دون حبه عز وجل ، وفوق حب تلك الأصناف الثمانية وغيرها ممن يحب من الخلق ، كالعلماء العاملين ، والمرشدين المربين ، والفنانين المتقنين ، والزعماء السياسيين ، والأغنياء المحسنين ، فإنه صلى الله عليه وسلم كان المثل البشري الأعلى ، والأسوة الحسنة المثلى ، في أخلاقه وآدابه وفضائله وفواضله ، وسياسته ورياسته ، وسائر هديه ، قد خصه الله بجعله خاتم النبيين ، وإرساله رحمة للعالمين ، وجعل اتباعه هو الدليل على حب متبعه لله عز وجل ، وجعل جزاءه عنده حبه تعالى لمتبعه ، ومغفرته لجميع ذنوبه ، وذلك نص آية31 آل عمران التي ذكرناها آنفا ، وسنزيد هذا الحب وحب الله تعالى بيانا في هذا المقام ، وقد عطف عليهما الجهاد في سبيله منكرا لأنه أظهر آياتهما ، ونكتة تنكيره وإبهامه إفادة أن كل نوع من أنواع الجهاد في سبيل الله - قل أو كثر- فإن تاركه لأجل حب شيء من تلك الأصناف الثمانية وتفضيلها عليه يستحق الوعيد الذي في الآية .
والجهاد أنواع ترجع إلى جنسين:الجهاد بالمال والجهاد بالنفس ، والقتال نوع من أنواع الجنس الثاني ، ومنها أنواع أخرى علمية وعملية ، فمهندس الحرب الحق العادلة مجاهد في سبيل الله ، وواضع الرسوم لمواطنها وطرقها كذلك الخ .
وإذا كان الأمر كذلكوهو كذلكفلا ريب أن من كان ما ذكر من الأصناف الثمانية كلها أو بعضها أحب إليه من الله ورسوله وجهاد في سبيله فهو غير تام الإيمان أو غير صحيحه كما تشير إليه آية المائدة 75 التي استشهدنا بها آنفا .فقوله عز وجل:{ فتربصوا حتى يأتي الله بأمره} وعيد أبهم لتذهب أنفسهم فيه كل مذهب ، وأقرب ما يفسر به قوله في وعيد المنافقين من هذه السورة{ قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا} [ التوبة:52] ، وما كان أولئك الذين يؤثرون حب أهلهم وأموالهم على حب الله ورسوله والجهاد في سبيله إلا من المنافقين ، فهم الذين كانوا يثبطون المؤمنين عن الجهاد ويوحون إليهم زخرف الاعتراض على نبذ عهود المشركين ، وإعلان حالة الحرب بينهم وبين المؤمنين ، كما بيناه مرارا .
وما روي عن مجاهد أن المعنى حتى يأتي الله بالأمر بالهجرة ، وأن هذا كله كان قبل فتح مكة ، فما أراه يصح عنه ، وقد تقدم نقل الاتفاق على نزول هذه الآيات- وكذا السورة جلها أو كلها - بعد فتح مكة وغزوة حنين وتبوك ، وأنها مما بلغ للمشركين في موسم سنة تسع ، بعد سقوط فريضة الهجرة بنص حديث:( لا هجرة بعد فتح مكة ، ولكن جهاد ونية ، وإذا استنفرتم فانفروا ){[1506]} رواه البخاري من حديث مجاشع بن مسعود مرفوعا .ورواه في مواضع أخرى بلفظ ( بعد الفتح ) من حديث ابن عباس رضي الله عنه ، والوعيد هنا على ترك الجهاد دون الهجرة .
{ والله لا يهدي القوم الفاسقين} الفسق في اللغة خروج الشيء أو الشخص عما كان فيه ، أو عما من شأنه أن يكون فيه ، بحسب الخلقة أو العرف أو الشريعة .قال في المصباح:ويقال أصله خروج الشيء من الشيء على وجه الفساد ، يقال:فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها ، وكذلك كل شيء خرج عن قشره فقد فسق .قاله السرقسطي ، وقيل للحيوانات الخمس فواسق استعارة وامتهانا لهن لكثرة خبثهن وأذاهن ، حتى قيل:يقتلن في الحل وفي الحرم وفي الصلاة ، ولا تبطل الصلاة بذلك اه .وهو في الاستعمال:الخروج من حدود الدين والشريعة بالكفر المخرج من الملة أو فيما دونه من الكبائر ، وفي اصطلاح الفقهاء تخصيصه بالأخير ، وقد يستعمل في القرآن بمعنى الخروج من سلامة الفطرة إلى فساد الطباع ، ومن نور العقل إلى ظلمة الجهل والتقليد كما بيناه في تفسير{ ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون} [ البقرة:99] بحيث يكون متمردا لا يقبل هداية الدين .
والمعنى هنا:وقد مضت سنة الله تعالى في القوم الفاسقين المارقين من الدين بعد معرفته كالمنافقين أن يكونوا محرومين من الهداية الفطرية التي يعرفها الإنسان بالعقل السليم والوجدان الصحيح ، فلا يعرفوا ما فيه مصلحتهم وسعادتهم من اتباعه ، فيؤثرون حب القرابة والمنفعة العارضة كالمال والتجارة على حب الله ورسوله والجهاد المفروض في سبيله ، ويصح تفسيره بمقابله وعكسه ، فيقال:وقد مضت سنته تعالى في القوم الفاسقين من محيط الفطرة السليمة ونور العقل الراجح اتباعا للهوى أو التقليد أن يحرموا من فقه هداية الدين فلا يعقلونها ، وأهمها العلم بما في إيثار حب الله وحب رسوله والجهاد في سبيله من الصلاح والإصلاح ، والفوز بسعادة الدارين ، بما يقتضيه الولاء والاتحاد بين المؤمنين من إزالة خرافات الشرك ومفاسده ، وإقامة الحق والعدل ، وما يستلزمهما من ثبات الملك .
فصل في كمال حب الله ورسوله وطريق اكتسابه
من رحمة الله تعالى في دين الفطرة أنه لم يذم حب الأهل والأقارب والأزواج ، ولا حب المال والكسب والاتجار ، ولم ينه عنهما ، وإنما جعل من مقتضى الإيمان إيثار حب الله ورسوله على حب ما ذكر ، وكذلك الجهاد في سبيله إذا وجب ، كما كانت الحال بين المؤمنين والمشركين ، وتقدم شرحها في تفسير هذه السورة وغيرها ، وهذا منتهى التسامح في الدين دون تكليف بغض ما ذكر ، فكيف وقد أباح الإسلام معه بر المخالف في الدين والعدل والقسط في معاملته في سورة الممتحنة 8 ، 9 ، وتقدم الاستشهاد به في آخر تفسير الآية السابقة ، وخاطب المؤمنين في سورة آل عمران بقوله بعد النهي عن اتخاذ بطانة من الكفار الذين لا يألونهم خبالا الخ:{ ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم} [ آل عمران:3] ، وأباح لهم نكاح الكتابيات على ما فطر عليه القلوب من حب الزوجية ، وقوله:{ وجعل بينكم مودة ورحمة} [ الروم:21] .
ومن الأحاديث في الحب المشروح في الآية ما رواه الشيخان في صحيحيهماوكذا الترمذي والنسائيمن حديث أنس مرفوعا:( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان:أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا الله ، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار ){[1507]} ، وما رواه الشيخان من حديث أنس أيضا:( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين ){[1508]} ، وما رواه البخاري من حديث عبد الله بن هشام قال:كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب ، فقال له عمر:يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا نفسي التي بين جنبي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:( لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك ) .فقال له عمر:فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:( الآن يا عمر ){[1509]} .
وقد حملوا هذه الأحاديث على الإيمان الكامل بناء على أن المراد حب الطبع الذي لا يملكه الإنسان ؛ إذ من المعلوم بالضرورة أن حب الإيمان والعبادة والإجلال شرط أو شطر من الإيمان بالله وبرسالته صلوات الله وسلامه عليه .وأما صيرورته وجدانا من قبيل حب الطبع ، وغلبته على حب كل شيء حتى النفس ، فهو كمال لا يحصل إلا بعد الرسوخ في الإيمان ، وهو ليس ببعيد ، فكثير من العشاق للحسان يصلون إلى هذه الدرجة ، وأكثر هؤلاء الحسان غير أهل لعشر هذا الحب ، لولا أنه من أمراض النفس ، فأين منه حب من هو مصدر لكل جمال وكمال وحسن وإحسان ، يتجلى في كل ما عرف البشر من نظام الأكوان ، وهم لم يعرفوا منه إلا القليل ؟
والطريق إلى هذه المعرفة والحب كثرة الذكر والفكر ، وتدبر القرآن مع التزام سائر أحكام الشرع ، وإنما الذكر ذكر القلب ، مع حسن النية وصحة القصد ، وتأمل سننه وآياته في الخلق ، بأن تذكر عند رؤية كل حسن وجمال وكمال في الكون أنه من الله عز وجل ، وأن تذكره عند سماع كل صوت من ناطق مفهوم ، وصامت معلوم ، كخرير المياه ، وهزيز الرياح ، وحفيف الأشجار ، وتغريد الأطيار ، وكذا نغمات الأوتار ، وتتذكر أنها تسبح بحمد الله ، ومن صنع الله الذي أتقن كل شيء ، كما قال تعالى في تسبيح نبيه داود عليه السلام في زبوره:{ إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق والطير محشورة كل له أواب} [ ص:18 ، 19] .
والمحفوظ عند أهل الكتاب في خاتمه الزبور وهو المزمور المائة والخمسون:«سبحوا الله في قدسه ، سبحوه في فلك قوته ، سبحوه على قواته ، سبحوه بصوت الصُّور ، سبحوه برباب وعود ، سبحوه بدف ورقص ، سبحوه بأوتار ومزمار ، سبحوه بصنوج التصويت ، سبحوه بصنوج الهتاف ، كل نسمة فلتسبح الرب ، هللويا » اه .
وفي المزامير كثير من هذه التسابيح في المعازف ، وكان من شريعة موسى عليه السلام ، ولكنه ليس من ديننا وشعائر شريعتنا ، والتحقيق أن شرع من قبلنا ليس شرعا لنا ، ولم يأذن الله تعالى لنا أن نحدث شيئا في دينه بآرائنا وأهوائنا ، وهو قد أكمل لنا الدين ، وبلغنا رسوله صلى الله عليه وسلم أن ( كل بدعة ضلالة ){[1510]} ، وقال:( من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد ){[1511]} متفق عليه ، وقد ابتدع بعض الصوفية إدخال المعازف والرقص في ذكر الله بما يجتمعون له ، فيجعلونه من قبيل الشعائر ، وإنما الذي نطق به كتاب الله إثبات تسبيح كل شيء لله ، قال تعالى:{ تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبحبحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم}[ الإسراء:43] .
فالذي ينبغي لنا أن نستفيده من ذلك أن نذكر في قلوبنا عند رؤية كل شيء من صنع الله ، وسماع كل صوت من مخلوقات الله ، أنه يسبح بحمد الله ، بدلالته على تنزيهه عما لا يليق به ، وعلى قدرته وحكمته ومشيئته ورحمته ، وأن لها تسبيحا آخر غيبيا لا نفقهه بكسبنا ؛ لأننا لا ندرك حياتها ( راجع ج7 ) ، وقد يكون إدراكه ثمرة روحية لمن زكت أنفسهم بذكر الله وتسبيحه ، وخرجوا به من ظلمات الأهواء والشهوات إلى نور قدسه{ يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما} [ الأحزاب:4143] .
ومن أقام فرائض الله تعالى كما أمر ، وترك معاصيه كما نهى ، وداوم على التقرب إليه بالنوافل كما ندب ، وأكثر من ذكره كما أحب ، فإنه يصل بفضل الله إلى المقام الذي أشار إليه الحديث القدسي:( وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه ، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها »{[1512]} الحديث ، تفرد به البخاري وفي سنده كمتنه غرابة .
ومن المعلوم بالبداهة أن ذات الله تعالى لا تكون صفة أو عضوا لغيرهولا ذات المخلوق أيضاوإنما المعنى المتبادر من الحديث أنه تعالى يكون هو الشاغل الأعظم لسمع من أحبه إذا سمع ، وبصره إذا أبصر ، الخ ولهذا مراتب:
أولها:أنه لا يوجه سمعه إلا لما يعلم أنه يحبه ويرضيه .
ثانيها:أنه يذكره تعالى بقلبه ولسانه عند كل إدراك وكل عمل فيزداد به معرفة وعلما ، وهو ما كان موضوع كلامنا في السماع آنفا .
ثالثها:أنه يكون موضوع عناية الله وتصرفه فيما يسمعه على حد{ ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم} [ الأنفال:23] ، أي أنه تعالى يخلق له عند سماع ما يسمع ورؤية ما يبصر من العلم بصفاته وسننه في خلقه ما لم يكن يعلمه ، فيطلبه ويقصد إليه ، فيكون من كسبه كما هو شأنه في المرتبتين الأوليين الكسبيتين .
رابعها:ما يسمونه الفناء في الله ، وهو أن يغيب العبد عن شهود نفسه ، والشعور بإرادته وحسه ، ويبقى له الشعور بأنه مظهر من مظاهر بعض صفات ربه ، وموضع تجلي ما شاء من أسمائه وصفاته ، حتى يكون عز وجل هو الغالب على أمره ، كما قال تعالى في يوسف عليه السلام{ والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون} [ يوسف:21] ، وهذا الفناء والشعور لا يحصل لمن صار من أهله ، بقطع المراحل والتنقل في المراتب التي من قبله ، إلا اللمحة بعد اللمحة ، والفينة بعد الفينة ، وهذه المرتبة هي وحدة الشهود ، وما يذكرونه من مرتبة وراء هذه تسمى وحدة الوجود ، وهي عبارة عن كون وجود الخلق عين وجود الحق ، وكون ذات العبد ، هي ذات الرب ، أو لا عبد ولا رب ، وما ثم إلا شيء واحد له مظاهر وأطوار ، كظهور الماء في صور الثلج الجامد والسائل والبخار ، وقد يحتجب بالانحلال إلى عنصرية ( الأكسجين والأدرجين ) عن الأبصار .
فهذه فلسفة مادية باطلة ، اخترعتها مخيلات صوفية البوذية والبراهمة ، وهي كفر بالله ، وخروج من ملل جميع رسل الله ، وقد فتن بها بعض صوفية المسلمين ، ولهم فيها من الشعريات المنظومة والمنثورة ، وتأويل بعض الآيات والأحاديث المأثورة ، ما أضل كثيرا من الناس بهم وبها ، كما ضل آخرون بالفلسفة العقلية والطبيعية والإعجاب بأهلها ، وقد كشف شبهات الفريقين وفندها بالأدلة العقلية والنقلية شيخ الإسلام ابن تيمية ، وبين تلميذه المحقق ابن القيم حقائق التصوف الموافقة للكتاب والسنة في كتابه ( مدارج السالكين ) الذي شرح به كتاب ( منازل السائرين ) تأليف شيخ الإسلام في الحديث والتصوف أبي إسماعيل الهروي قدس الله أرواحهم أجمعين .
وإننا نتم فائدة هذا البحث بالتنبيه إلى أكبر الأسباب لزيغ بعض الصوفية ، عن صراط الكتاب والسنة النبوية ، مع اعتراف جميع أئمة شيوخهم بأنهما أصل طريقتهم ، والبحر الذي تستخرج منه جميع درر حقائقهم ، وهو أن من اشتغل بكثرة ذكر الله - التي هي أقرب الطرق إلى معرفة الله وحبه- يحصل له في أثناء ذلك من كشف أسرار الكون والمشاهدات والأذواق الروحية ما يفتنه بنفسه وبخواطره وذوقه ، فيتوهم أن كل ما يشعر به ويتخيله حقيقة أثبتها الكشف ، كما يفتتن المشتغلون بالفلسفة النظرية بما يظهر لهم من النظريات في هذه الموجودات ، فيظنون أنها حقائق أثبتها العقل ، وكل من الفريقين المفتونين يظن أن ما عنده هو الحقيقة ، وإن خالف نصوص الشريعة ، فإما أن يتركها فيكون من الكافرين ، وإما أن يتأولها فيكون من المبتدعين ، والحق أن كلا منهما يخطئ ويصيب ، وأن كلامهم يناقض بعضه بعضا ، حتى ما يسمونه كشفا ، أو تلقيا من ملك الإلهام ، أو من النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة أو المنام ، وقد أبطلت العلوم العصرية أصول فلسفتهم المادية والروحية .
وللصوفية الشرعيين في حب الله منازل عالية ، ومقامات راسخة ، ومعارف واسعة ، في حب كل شيء بحب الله ، مع إعطاء الشرع حقه فيما يبغض الله وما يحب الله .قالت رابعة العدوية رحمها الله:
أحبك حبين حب الهوىوحبا لأنك أهل لذاكا
فأما الذي هو حب الهوىفشيء شغلت به عن سواكا
وأما الذي أنت أهل له فكشفك لي الحجب حتى أراكا
والذي نفهمه من هذا الشعر أن الحب الأول هو حب العبودية ، وهي حيرة شاغلة عن كل ما عداها ، والثاني حب المعرفة ، وغايتها رفع الحجب الكثيرة المانعة من كمالها إلى أن تكمل بكرامة الرؤية في الآخرة .وقد بينا هذا المعنى وهذه الحجب في تفسير آية الرؤية من سورة الأعراف ، وقد روي عن الإمام عبد القادر الجيلاني رحمه الله أنه كان كلما ولد له ولد يكبر أربع تكبيرات- كتكبيرات صلاة الجنازة- ويقول ما معناه أنه يعده كالميت حتى لا ينازع حبه حب الله تعالى في قلبه .وإذا أحببت أن تعرف الصحيح الشرعي من هذا الحب فعليك بمدارج السالكين للمحقق ابن القيم رحمه الله تعالى .
هذا وإن لهم من المعاني الرقيقة في صفات المثل الأعلى للكمال البشري في هذه الخليقة ، والمدد الأكمل في الشريعة الشاملة للطريقة والحقيقة ، خاتم النبوة والتشريع السماوي ، ومشرق الأنوار الإلهية للعرفان الإلهي ، الرحمة المرسلة للعالمين ، محمد رسول الله وخاتم النبيين ، ما يجعل حبه هو المعراج الأعلى إلى حب العبد لله ، واتباعه هو الوسيلة الوحيدة إلى نيل مقام الحب من الله ، بنص{ قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} [ آل عمران:31] ، مع التفرقة التامة بين حقيقة الربوبية والألوهية ، وحقيقة الرسالة التي هي أعلى مقامات العبودية ، فلا يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم ما لا يطلب إلا من الله ، لأنهم يعلمون أنه عبد لا ند لله ؛ بل لا يسألون إلا الله ، كما ورد في مناقب الصديق الأكبر أنه لم يسأله صلوات الله وسلامه عليه شيئا لنفسه ولا الدعاء .
وإذا صح للإنسان حب الله وحب رسوله وكمل فيهما صارت سائر أنواع الحب الحيواني والنفسي والمادي تابعة وممدة لهما ، حتى تغرق أو تفنى فيهما ، فهو يعطي كل ذي حق حقه من الحب الشرعي الفطري ، ويسهل عليه بذل ماله ونفسه في سبيل الله ، توسلا به إلى لقاء الله .وكذلك كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم .وتأمل ما كان من تحريض الخنساء رضي الله عنها لأولادها على الجهاد بشعرها حتى قتلوا واحدا بعد واحد ، فقالت وهي التي يضرب المثل بحزنها على أخويها في الجاهلية:الحمد لله الذي أكرمني بشهادتهم .وما فقد المسلمون السيادة في الدنيا والاستعداد لسعادة الآخرة إلا بالحب المادي لأنفسهم ولشهواتهم ، وإيثاره على حب الله ورسوله الذي هو مناط سعادتهم ، والجهاد في سبيله الذي كان مناط سيادتهم ، وكان من عقابهم على ذلك ابتلاؤهم ببذل أنفسهم وأموالهم في سبيل أعدائهم .ولا نجاة لهم إلا بتربية أنفسهم على توطينها على الموت في سبيل الله .فمن لم يتح له الموت في جهاد العدو فعليه بطلب الموت الإرادي في جهاد النفس ، فلا حياة إلا بعد موت ، والموت آية الحب الصادق:
فإن شئت أن تحيا سعيدا فمت به شهيدا وإلا فالغرام له أهل
وله من العبرة في الآيات التالية ما يجعل هذه المعاني المعقولة مشاهدة ماثلة ، والدلائل الشرعية وقائع حسية في آثار النبي المختار ، وإيثار الأنصار ، والفرق بين المؤمنين الراسخين منهم ومن المهاجرين ، وبين المؤلفة قلوبهم والمنافقين ، فيما كان من خذلان وهزيمة ، ومن نصر وغنيمة .