قال تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( 23 ) قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ( 24 )
كان المؤمنون في أول الإسلام قلة ، ولا يكون للقلة قوة إذا تضامت وتوالت ، وجعلت الولاية لأنفسهم دون غيرهم ، ولذلك كانت الهجرة واجبة حتى تتجمع قوة الحق وتتآزر وتكون لها ولاية مستقلة عن ولاية أهل الشرك ومناصرتهم ، والولاية هي النصرة والسلطان ، وأن تكون الموالاة لدولة مسلمة .
روى الزمخشري ، عن ابن عباس أنه قبل فتح مكة من آمن لم يتم إيمانه إلا بأن يهاجر ، ويصارم أقاربه الكفرة ، ويقطع موالاتهم ، فقالوا:يا رسول الله ، إنا نحن اعتزلنا من خالفنا قطعنا آباءنا وأبناءنا وعشائرنا ، وذهبت تجارتنا ، وهلكت أموالنا ، وخربت ديارنا ، ولقينا ضائقة . فنزلت الآية . وإن صحت هذه الرواية فإن الآية يكون المخاطب بها الذين آمنوا أولا ثم هاجروا ، ولكن مع ذلك فحكم الآية عام ؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، ولقد قال الله تعالى:{ لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير ( 28 )} ( آل عمران ) ، ولقد قال تعالى:{ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم . . . . . . . . . . . . . . . . . . ( 51 )} ( المائدة ) ، اللهم إنا براء ممن جعل نصرته عندهم ، فإنه منهم .
ولقد روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:( لا يطعم أحدكم طعم الإيمان حتى يحب في الله ويبغض في الله ، حتى يحب في الله أبعد الناس ، ويبغض في الله أقرب الناس إليه ) ( 1 ){[1215]} .
ولقد قال تعالى:{ لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا عن حزب الله هم المفلحون ( 22 )} ( المجادلة ) .
وفي الآية الكريمة إشارات بيانية بليغة:
الأولى:قد اقتصر الله تعالى في الآية على الآباء والإخوان ، ولم يذكر الأبناء ، لأن الآباء والإخوة تكون منهم النصرة ، والاعتزاز ، أما الأبناء فإنهم تبع لآبائهم ؛ ولأنه لا تأثير للأبناء على آبائهم ، ولأنه ينذر من كان يسلم ، وأبناؤه مستمرون على الكفر ، لأن تأثير الآباء على الأبناء يمنع من أن يتغذوا بلبان الشرك ، ومن الناذر إيمان أبي بكر ، وبعض ولده مشرك حتى اشترك في غزوة بدر مع المشركين .
الثانية – في قوله تعالى:{ إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ} هذا شرط لمنع الولاية عنهم والانتصار بهم ، ونصرتهم و{ استحبوا} معناها أحبوا بشدة وتعصب ؛ لأن السين والتاء للطلب ، أي طلبوا محبة الكفر حتى أحبوه ، فكانوا مبالغين في الكفر متعنتين في عداوة المؤمنين ، فمن والاهم فقد والى أعداءه الكافرين .
الثالثة – أن الله تعالى حكم بالظلم على من يتولاهم في قوله تعالى:{ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ( من ) شرطية ، وهي اسم ، والتولي جعلهم أولياء له ونصراء ، وقال تعالى:{ منكم} للإشارة إلى أنه ترك ولاية الحق إلى الباطل ، لأن منكم تدل على أن الأصل هو ولايتهم لكم ، وقوله تعالى:{ فأولئك} ، الإشارة إلى انفصالهم عنكم ، وحكم عليهم سبحانه بالظلم وقصره عليهم ؛ وذلك لأنهم ظلموا أنفسهم بترك أوليائهم الحقيقيين كما قال تعالى:{ إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا . . . . . . . . . . . ( 55 )} ( المائدة ) ، فتركوا ولاية الله وإخوانهم المؤمنين ، فكانوا ظالمين إذ استنصروا بمن لا ينصرونهم ، وليس في قدرتهم أن ينصروهم من دون الله ، ولأن موالاة الشرك شرك{. . . . .إن الشرك لظلم عظيم ( 13 )} ( لقمان ) .