{اسْتَحَبُّواْ}: الاستحباب: طلب المحبة ،ويجوز أن يكون استحبّ بمعنى أحب .
مناسبة النزول
ذكر في مجمع البيان عن ابن عباس ،في ما نقله أو استوحاه من موقع الآية ،قال: لمّا أمر الله تعالى المؤمنين بالهجرة وأرادوا الهجرة ،فمنهم من تعلقت به زوجته ،ومنهم من تعلق به أبواه وأولاده ،فكانوا يمنعونهم من الهجرة ،فيتركون الهجرة لأجلهم ،فبيّن سبحانه ،أن أمر الدين مقدَّم على النسب ،لذلك وإذا وجب قطع قرابة الأبوين ،فالأجنبي أولى ..وروي أنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حيث كتب إلى قريش يخبرهم بخبر النبي( ص ) لما أراد فتح مكة ،تعاطفاً مع أهله الموجودين في مكة ..
وربما كانت هذه الرواية أقرب إلى جوّ الآية من الرواية السابقة ،لأن قضية الموالاة هي قضية الموقف المتحرك لدعم موقف هؤلاء ،لا مجرد التعاطف الذي يمنعهم من التحرك ،فهي التعبير عن الجانب الإيجابي المضاد ،لا الجانب السلبي ..وقد يكون الجو فيها أشمل من ذلك ليشمل كل موقف سلبيٍّ أو إيجابيٍّ مضادٍّ للموقف الإيماني ،انطلاقاً من العاطفة التي تفرضها القرابة أو نحوها .
الإيمان هو الذي يحدد الولاية لا النسب والمال
إنه الموقف الإيماني الرافض لكل عاطفةٍ حميمةٍ في العلاقات الإنسانية الممتدة في روابط القرابة والصداقة ،إذ كان لتلك العلاقات موقفٌ سلبيٌّ ضد الله ورسوله ،من خلال ما تنطلق به من شركٍ بالله ،وحربٍ لرسوله وللمؤمنين .فلا بدّ للإيمان من أن يعبّر عن نفسه بالوقوف في خط المواجهة في الداخل لكل المشاعر الذاتية المتعاطفة مع هؤلاء الذين يتصلون بالإنسان بصلة القربى ،وبالرفض لكل تواصلٍ وتفاعلٍ إيجابي في الجوانب العملية ،بما يؤيّد به الناس بعضهم البعض ،وفي ما يقومون به في المجال الاجتماعي من مواقف الولاية القائمة على الإخلاص والنصرة والتأييد .فقرابة المؤمن لله أعظم من أيّة قرابةٍ ،وموالاته له أكبر من أيّة موالاةٍ لغيره ،لأن المعنى العميق للإيمان ،في مدلوله الحقيقي ،هو أن يكون الله هو الأساس في كل العلاقات الإنسانية التي يبنيها المؤمن هنا أو يهدمها هناك .فلا مجال للاستسلام لما تمثله المشاعر الحميمة الذاتية من نقاط الضعف التي تفصل بين حركة العلاقات الذاتية في النطاق ذاته ،بل إن الإيمان هو الذي يحدّد للعلاقات حركتها ومواقعها في الاتجاه المتصل بالامتداد الشامل ،في الفكر والشعور والعمل ،انطلاقاً من الإيمان بوحدة الشخصية الإنسانية في ما تفكر به وتتعاطف معه ،وفي ما تقفه من مواقف ،فلا مكان للازدواجية التي تفصل بين شخصية الإنسان الذاتية ،وشخصيته الإيمانيّة .
وهذا هو الموقف الحاسم الذي أرادت هاتان الآيتان أن تركّزاه وتؤكداه في حركة التشريع والممارسة .
الولاية لا تتحرك في خط القرابة
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَآءَ} والولاية توحي بدعم الموقف بالنصرة والتأييد ،أو الاستسلام للجانب العاطفيّ الذي يفرض على الإنسان ضغوطاً شعورية تمنعه من التحرك في خطّ الولاية الشاملة لله ولرسوله ،فتعطّل بذلك مسيرة الإيمان التي تدعو إلى فراق الأهل ،من أجل الدعوة والجهاد .
{إِنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ} فاختاروا الكفر خطاً لحياتهم في مواجهة خط الإيمان ،لأن ذلك هو الخط الفاصل ،الذي يمثل الحدّ الذي يريد للمؤمنين أن يقفوا عنده ولا يتجاوزوه .فعلى المؤمنين أن يقفوا مع حركة الإيمان بكل قوّةٍ وصلابةٍ حتى لو كلفهم ذلك التمرّد على مشاعرهم الذاتية ،بل ربّما كان من الضروريّ العمل على تربية المشاعر ،بحيث تكون حركة العاطفة منسجمةً مع حركة الفكر ،{وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ} بالنصرة والتأييد والطاعة{فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} الذين ظلموا أنفسهم ،وتمرّدوا على ربّهم ،وظلموا الحياة من خلال ما يمثله موقفهم من عدوانٍ على الحياة ،في إضعاف الحق وتقوية الباطل .
ويتعاظم الأسلوب القرآني ويتصاعد ليتجاوز علاقة القرابة ،إلى كل علاقةٍ أخرى تربط الإنسان بالجانب المادي في الحياة ،في ما يمكن أن يضعف موقف الإنسان ويعطل حركته في الاتجاه بعيداً عن مقتضيات الإيمان في مواقع التضحية والبذل والتحدي .فلا بد للمؤمن من أن يفرّغ فكره وروحه وشعوره من أيّة عاطفةٍ سلبيّةٍ تمنعه من السير في الاتجاه السليم لحركة الإيمان ،ليشعر بأن قيمة الخط الإيماني والعلاقات الإيمانية ،هي أغلى من قيمة أيّ شيء آخر ،مهما كان غالياً ،ومهما كان عظيماً في تأثيره .