عهود المنافقين
قال الله تعالى:ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين 75
في الآية السابقة بين الله تعالى كذب المنافقين ، واستعانتهم في تأييد كذبهم بالإيمان الكاذبة التي لا تصدر إلا عن مهين ، كما قال تعالى:{ ولا تطع كل حلاف مهين10}( القلم ) .
وذكرنا الحديث الصحيح الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم "آية المنافق ثلاث:إذا حدث كذب ، وإذا وعد خلف ، وإذا اؤتمن خان"{[3]} .
وقد كانت علامة النفاق الكذب ، وقد ذكر الله تعالى الكذب ، ونتيجته ويذكر الله تعالى خلاف الوعد ، فيقول تعالت كلماته:
{ ومنهم من عاهد الله لئن آتان من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين75} .
الضمير في{ منهم} يعود إلى المنافقين ، وما أشد إنصاف الله تعالى في أحكامنا ، وإنه سبحانه يعلمنا الصدق في أحكامنا فلا نسرف في القول فنعم القول ، والخبر عن خاص .
والعلماء يذكرون شخصا بعينه ، أو أشخاصا معينين ، ونحن نميل دائما إلى أن تكون ألفاظ القرآن على عمومها من غير تخصيص أشخاص ، وهنا نقول إن من خواص النفاق إخلاف الوعد ، وإن الاخلاف يقع من بعضهم ، وإن كان يحتمل أن يقع من كلهم ، وعهد الله تعالى الذي يعاهد عليه بعضهم يشمل ما إذا عاهد النبي صلى الله عليه وسلم ، أو عاهد الله مناجيا ربه ، أو أقسم بالله معقدا الأيمان أو نحو ذلك فهو في كل ذلك يعاهد الله تعالى ، فمن أقسم أن يصدق إذا جاءه فقد عاهد الله تعالى ، ومن نذر لله نذرا إذا أعطاه الله تعالى ليصدقن ، فقد عاهد الله تعالى .
وقال تعالى:{ لئن آتانا من فضله} اللام هي الموطئة للقسم ، وقوله تعالى:{ آتانا من فضله} ، لم يذكر فيه نوع ما يؤتيه ، أهو علم ، أو مال ، أو جاه . . . .إلى آخره ، لم يذكر ما يعطيه الله تعالى صراحة ، ولكن الظاهر أنه مال ، بدليل لنصدقن ولنكونن من الصالحين ، فهي نص في المال ، ولعل مثل المال غيره ، فمن آتاه الله تعالى علما ، فصدقته أن يجعله لله خالصا ، فلا يتجر به ولا يبيع كلام الخالق بالدرهم والدينار ، ولا يفتى بغير الحق ولا يحل ما حرم الله ، ولا يحرم ما أحل الله تعالى .
وقوله تعالى:{ لنصدقن} جواب القسم ، وليست جواب الشرط ؛ لأنه يقدم جواب القسم على جواب الشرط ، والدليل على ذلك نون التوكيد الثقيلة ، ووجود اللام ونون التوكيد الخفيفة في المعطوف .
ونرى كما قلنا أن النص عام لا يخص أحد منهم ، وإن كان في مساق بيان أحوال المنافقين .
ولكن يذكر المفسرون خبرا عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال الأكثرون إنه ضعيف السند في النسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن نذكره ؛ لأنه مع ضعفه يصور طمع النفس التي لا تشبع ، بل يزيده العطاء من فضل الله طمعا ، ويوجد فيها شحا .
وذلك أنه مع ضعفه يصور النفس الإنسانية إذا استغنت ، ونرى كيف يتحقق قوله تعالى:{ كلا إن الإنسان ليطغى6 أن رآه استغنى7}( العلق ) ، وهذه الرواية كما جاءت في كتب التفسير بالرواية ، ونقلها الزمخشري ، ولم يضعفها ، وإن كان علماء الرواية قد ضعفوها:روى أن ثعلبة بن حاطب ، قال يا رسول الله:ادع الله أن يرزقني مالا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"قليل تؤدي شكره ، خير من كثير لا تطيقه"، فراجعه ، وقال:"والذي بعثك بالحق لئن رزقني الله لأعطين كل ذي حق حقه ، فدعا له ، فاتخذ غنما ، فنمت كما تنمى الدود ، حتى ضاقت بها المدينة ، فنزل واديا ، وانقطع عن الجماعة والجمعة ، فسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقيل كثر ماله حتى لا يسعه واد ، قال:"ويح ثعلبه"، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقين لأخذ الصدقات فاستقبلهما الناس بصدقاتهم ومرا على ثعلبة وسألاه الصدقة وأقرآه كتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي فيه الفرائض . فقال:ما هذه إلا أخت الجزية ، وقال:ارجعا حتى أرى رأيي ، فلما رجعا قال لهما رسول الله قبل أن يخبراه:"يا ويح ثعلبة"مرتين . فلما نزلت آية الصدقات جاءه ثعلبة بالصدقة ، فردها النبي صلى الله عليه وسلم .
وإن هذه القصة تصور كيف يكون الإنسان ، وهو في حرمانه سليم القلب ، فإذا جاءه المال أطغاه وأنساه ربه ودينه . وإن إخلاف الوعد ، أو العهد الذي عاهدوا الله تعالى ينشيء النفاق ، وينمي النفاق ، ويجعله يتكاثف ويزداد ،