لقد قال صلى الله عليه وسلم:"آية المنافق ثلاث:إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا أؤتمن خان"{[1250]} فقول الذين عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم ، كان أوضح أوصافهم الكذب والحلف ، ولذا قال تعالى:{ يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم} .
كان المنافقون ينالون بألسنتهم من النبي كثيرا ، ولا يكفون ألسنتهم ، ويقولون إذا أظهروا الإيمان ، إنما نحن نستهزئ بهم ، وكان الله يعلم نبيه بأحوالهم وأقوالهم ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعرفهم في لحن أقوالهم ، كما قال تعالى:{. . . ولتعرفنهم في لحن القول . . .30}( محمد ) .
وكانت كلماتهم الفاسقة ، تتساقط على مسامع بعض المؤمنين من غير أن يتنبهوا ، روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب فقال رجل من المنافقين ، وزيد بن أرقم بجواره ، قال ذلك المنافق:( لئن كان هذا الرجل "أي الرسول "صادقا فنحن شر من الحمير ، فقال زيد رضي الله عنه:فهو والله صادق ولأنت شر من الحمار ) .
كان هذا القول وأشباهه يصل إلى مسامع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وربما يجابههم بهذا الذي ينقل ، عندئذ يجدون المطية التي اختاروها ، وهي مطية كل كذاب مهين ، وهي الحلف بالله تعالى من غير أي حريجة .
ولذا يقول في بيان حالهم عندما يكشف أمرهم وتعلم أقوالهم:{ يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا} .
قلنا:إن أقوالهم المنافقة كثيرة لا تخص واحدة دون أخرى ، بل كلما تكشف قول ينبئ عن نفاقهم- كذبوه وحلفوا اليمين الغموس الفاجرة ، وقد أشرنا إلى أن اليمين الفاجرة ، كانت المساغ لكذبهم ، لعنهم الله هم وأخلافهم في هذا الزمان ، وقد قالوا كلمة الكفر أي ما قالوه فيه كلمة واحدة هي كافية لطردهم من رحمة الله ، واستحقاقهم نار جهنم ، وهي إنكار الرسالة المحمدية ؛ إذ هي الكلمة التي أوقعتهم في حضيض الكفر ، أو نقول"كلمة"بمعنى كلمات ، وكلمة بها كلام قد يؤم{[1250]} ، والمراد أن كلامهم كله في الاستهزاء والتهكم ، وإيقاع الفرقة ، والدس والفساد ، هو كفر .
وقال{ بعد إسلامهم} أي بعد إعلانهم الإسلام ، وإبطانهم الكفر والنفاق ، فهذه الكلمة أو الكلام قد كشف نفاقهم الذي كان مستورا بإعلان الإسلام ، فما استفادوا إلا بيان حالهم ، ومعرفة الوصف الحقيقي لهم .
{ وهموا بما لم ينالوا} أرادوا أن يفسدوا أمر المؤمنين ، وتوقعوا الفتنة والفشل فيهم ، ولم ينالوه ؛ لأن الله تعالى رقيب عليهم ، وكاشف للمؤمنين أمرهم ، وكلما أوقدوا نار فتنة أطفأها الله سبحانه وتعالى ، وعادت الأمور بيضاء لا فتنة فيها ، ولقد هموا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم يوم أرادوا الفتك به بإلقاء حجر عليه فكشف الله تعالى بالوحي أمرهم ولم ينالوا مأربهم ، وهموا بقتله في عودته من تبوك ولم ينالوا ما يبغون ؛ لأن الله تعالى عاصمه من الناس ، فإنهم جمعوا عددا ما بين اثنى عشر ، وخمسة عشر رجلا للفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو في أعلاها ، على حسب اختلاف الرواة كي يفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإليك القصة كما رواها الإمام أحمد قال:"لما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أمر مناديا أن ينادي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ العقبة ، فلا يأخذها أحد ، فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوده حذيفة ويسوق به عمار ، إذ أقبل رهط ملثمون على الرواحل غشوا عمارا وهو يسوق برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأقبل عمار رضي الله عنه ، يضرب وجوه الرواحل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحذيفة"فد فد"حتى هبط الرسول صلوات الله وسلامه عليه ، فلما هبط صلى اتلله عليه وسلم نزل ورجع عمار ، فقال:"هل عرفت القوم ؟"فقال رضي الله عنه:قد عرفت عامة الرواحل والقوم ملثمون ! قال عليه الصلاة والسلام:"هل تدري ما أرادوا ؟"قال:الله ورسوله أعلم ، قال صلوات الله وسلامه عليه:"أرادوا أن ينفروا برسول الله ، فيطرحوه"{[1252]} .
وهكذا هموا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينالوا منه ، وصدق وعد الله ورسوله إذ يقول له:{. . . .بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس . . .67}( المائدة ) .
وقد ذكر المفسرون أن النص الكريم{ وهموا بما لم ينالوا} خاص في تلك الحادثة . ونحن نقول إن النص يشمل كل ما هموا به ولم ينالوه .
ثم يقول سبحانه:{ وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله} لقد ازداد عمران المدينة بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاتسعت تجارتها ، وكثر سكانها ، ثم ما كانت تأتي به الحروب الإسلامية من غنائم زادت الخيرات واتسعت الموارد ، وعمت سكان المدينة وغيرهم ، ولكن المشركين لم يلتفتوا إليه وأن ذلك يوجب الحمد ، ولكنهم لؤماء أخساء ، قابلوا النعمة بالكفر ، وتأكد لؤمهم بقلبهم النعمة نقمة ، فهم بدل أن يشكروا النعمة كفروها ، وقالوا إن هذا يشبه تأكيد المدح بما يشبه الذم في صيغته ، كما في قول النابغة الذبياني:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهمبهن فلول من قراع الكتائب
بيد أن كلام الله العلي الكبير فيه تأكيد ذمهم لا تأكيد مدحهم ، فكان حقه عليهم أن يعدوا محمدا ودينه بركة عليهم يقدرونها حق قدرها .
وقد ذكر سبحانه أن هذا الغنى من فضل الله تعالى من به عليهم كان يوجب عليهم حسن الصحبة لمن جاوروهم الذين جاء الخير على أيديهم ، لا أن يتربصوا بهم الدوائر ، وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بجوار رب العزة ، وهو الغني والناس جميعا فقراء إليه سبحانه ، ذكر الرسول مع الله تعالى ؛ لأن الخير كله أجراه الله تعالى على يديه ، ولكي يعلموا أن مقدمه عليهم بركة وخير ، ولأن الله تعالى أكرمهم لمقام النبي صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم .
ومع هذه المكايد والفتن فتح الله تعالى لهم باب التوبة ، فهو ينهي عن أن يقنط عباده من رحمته ، فباب الرحمة والتوبة مفتوح ، ولذلك قال تعالى فاتحا باب الأمل لهم:
{ فإن يتوبوا يك خير لهم} .
أي إن يتوبوا توبة نصوحا يخلعون فيها أنفسهم من الكفر ، كما يخلع الثوب النجس ليلبس طاهرا ،{ يك خيرا لهم} ، أي يكون ذلك خيرا لهم ؛ لأن نفوسهم قد طهرت ، وطهارة النفس في ذاتها خير ، واستقامة النفس اطمئنان وإيمان ، وخير أيضا ؛ لأن النفاق ضعف ، والإيمان قوة ، وقوة النفس خير ، وخير أيضا لأنه نجا من خزي النفاق وذله وجبنه ، وخير لأنه نجا من عذاب يوم القيامة ، وإنه يكون عكس ذلك إن استمروا على غيهم ، وبقوا في رجسهم ، ولذا قال سبحانه:
{ وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة} ، أي إن أعرضوا وانصرفوا إلى الفساد وساروا في طريقه يعذبهم الله في الدنيا بضعف نفوسهم وخزيهم ، وفقد الثقة فيهم ، والخزي العظيم ، ونفور الناس منهم ، وضرب الذلة عليهم ، وانتقام الله منهم ، وكشف ما يضمرون ، وقتلهم ، كما فعل أبو بكر الصديق عندما ارتدوا ، فأنزل بهم الهزيمة والخزي والعار بتأييد الله ، وعذابهم في الآخرة جهنم وبئس المصير .
ومن عذابهم في الدنيا أنهم لا ولي لهم ولا نصير ، ولذا قال تعالى:{ وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير} - في الأرض- أي في هذه الدنيا ، أي أنهم في الدنيا يفقدون الأولياء الذين يحبونهم ويوادونهم ، إذ الولاية والمحبة توجب الثقة والمودة والإخلاص ، وأخص ما يختص به المنافق أنه يفقد الإخلاص فلا يخلص لأحد ، قريبا كان أو بعيدا ، وإذا فقد الإخلاص فليس ولي ولا حميم ولا نصير ، أي لا أحد يكون نصيرا لأن ذلك يكون بالثقة ، ولا ثقة في منافق . اللهم اكفنا شر النفاق والمنافقين .