وقوله:( يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم ) قال قتادة:نزلت في عبد الله بن أبي ، وذلك أنه اقتتل رجلان:جهني وأنصاري ، فعلا الجهني على الأنصاري ، فقال عبد الله للأنصار:ألا تنصروا أخاكم ؟ والله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل:"سمن كلبك يأكلك "، وقال:( لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ) [ المنافقون:8] فسعى بها رجل من المسلمين إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأرسل إليه فسأله ، فجعل يحلف بالله ما قاله ، فأنزل الله فيه هذه الآية .
وروى إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة ، عن عمه موسى بن عقبة قال:فحدثنا عبد الله بن الفضل ، أنه سمع أنس بن مالك - رضي الله عنه - يقول:حزنت على من أصيب بالحرة من قومي ، فكتب إلي زيد بن أرقم - وبلغه شدة حزني - يذكر أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:اللهم اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار - وشك ابن الفضل في أبناء أبناء الأنصار - قال ابن الفضل:فسأل أنسا بعض من كان عنده عن زيد بن أرقم ، فقال:هو الذي يقول له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:أوفى الله له بأذنه . وذاك حين سمع رجلا من المنافقين يقول - ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب -:لئن كان هذا صادقا فنحن شر من الحمير ، فقال زيد بن أرقم:فهو والله صادق ، ولأنت شر من الحمار . ثم رفع ذلك إلى رسول الله ، فجحده القائل ، فأنزل الله هذه الآية تصديقا لزيد - يعني قوله:( يحلفون بالله ما قالوا ) الآية .
رواه البخاري في صحيحه ، عن إسماعيل بن أبي أويس ، عن إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة . إلى قوله:هذا الذي أوفى الله له بأذنه ولعل ما بعده من قول موسى بن عقبة ، وقد رواه محمد بن فليح ، عن موسى بن عقبة بإسناده ثم قال:قال ابن شهاب . فذكر ما بعده عن موسى ، عن ابن شهاب .
والمشهور في هذه القصة أنها كانت في غزوة بني المصطلق ، فلعل الراوي وهم في ذكر الآية ، وأراد أن يذكر غيرها فذكرها ، والله أعلم . [ حاشية]
قال "الأموي "في مغازيه:حدثنا محمد بن إسحاق ، عن الزهري ، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك ، عن جده قال:لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذني قومي فقالوا:إنك امرؤ شاعر ، فإن شئت أن تعتذر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببعض العلة ، ثم يكون ذنبا تستغفر الله منه . وذكر الحديث بطوله إلى أن قال:وكان ممن تخلف من المنافقين ، ونزل فيه القرآن منهم ممن كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الجلاس بن سويد بن الصامت ، وكان على أم عمير بن سعد ، وكان عمير في حجره ، فلما نزل القرآن وذكرهم الله بما ذكر مما أنزل في المنافقين ، قال الجلاس:والله لئن كان هذا الرجل صادقا فيما يقول لنحن شر من الحمير [ قال] فسمعها عمير بن سعد فقال:والله - يا جلاس - إنك لأحب الناس إلي ، وأحسنهم عندي بلاء ، وأعزهم علي أن يصله شيء يكرهه ، ولقد قلت مقالة لئن ذكرتها لتفضحنك ولئن كتمتها لتهلكني ، ولإحداهما أهون علي من الأخرى . فمشى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر له ما قال الجلاس . فلما بلغ ذلك الجلاس خرج حتى يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - فحلف بالله ما قال ما قال عمير بن سعد ، ولقد كذب علي . فأنزل الله - عز وجل - فيه:( يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم ) إلى آخر الآية . فوقفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليها . فزعموا أن الجلاس تاب فحسنت توبته ، ونزع فأحسن النزوع هكذا جاء هذا مدرجا في الحديث متصلا به ، وكأنه - والله أعلم - من كلام ابن إسحاق نفسه ، لا من كلام كعب بن مالك .
وقال عروة بن الزبير:نزلت هذه الآية في الجلاس بن سويد بن الصامت ، أقبل هو وابن امرأته مصعب من قباء ، فقال الجلاس:إن كان ما جاء به محمد حقا فنحن أشر من حمرنا هذه التي نحن عليها . فقال مصعب:أما والله - يا عدو الله - لأخبرن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما قلت:فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وخفت أن ينزل في القرآن أو تصيبني قارعة ، أو أن أخلط بخطيئته ، فقلت:يا رسول الله ، أقبلت أنا والجلاس من قباء ، فقال كذا وكذا ، ولولا مخافة أن أخلط بخطيئة أو تصيبني قارعة ما أخبرتك . قال:فدعا الجلاس فقال:يا جلاس ، أقلت الذي قاله مصعب ؟ فحلف ، فأنزل الله:( يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم ) الآية .
وقال محمد بن إسحاق:كان الذي قال تلك المقالة - فيما بلغني - الجلاس بن سويد بن الصامت ، فرفعها عليه رجل كان في حجره ، يقال له:عمير بن سعيد ، فأنكرها ، فحلف بالله ما قالها:فلما نزل فيه القرآن تاب ونزع ، وحسنت توبته ، فيما بلغني .
وقال الإمام أبو جعفر بن جرير:حدثني أيوب بن إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا عبد الله بن رجاء ، حدثنا إسرائيل ، عن سماك ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال:كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالسا في ظل شجرة فقال:إنه سيأتيكم إنسان ينظر إليكم بعيني الشيطان ، فإذا جاء فلا تكلموه . فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق ، فدعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال:علام تشتمني أنت وأصحابك ؟ فانطلق الرجل فجاء بأصحابه ، فحلفوا بالله ما قالوا حتى تجاوز عنهم ، فأنزل الله - عز وجل -:( يحلفون بالله ما قالوا ) الآية .
وذلك بين فيما رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في كتاب "دلائل النبوة "من حديث محمد بن إسحاق ، عن الأعمش عن عمرو بن مرة ، عن [ أبي] البختري ، عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - قال:كنت آخذا بخطام ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقود به ، وعمار يسوق الناقة - أو أنا:أسوقه ، وعمار يقوده - حتى إذا كنا بالعقبة فإذا أنا باثني عشر راكبا قد اعترضوه فيها ، قال:فأنبهت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ بهم] فصرخ بهم فولوا مدبرين ، فقال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:هل عرفتم القوم ؟ قلنا:لا يا رسول الله ، قد كانوا متلثمين ، ولكنا قد عرفنا الركاب . قال:هؤلاء المنافقون إلى يوم القيامة ، وهل تدرون ما أرادوا ؟ قلنا:لا . قال:أرادوا أن يزحموا رسول الله في العقبة ، فيلقوه منها . قلنا:يا رسول الله ، أو لا تبعث إلى عشائرهم حتى يبعث إليك كل قوم برأس صاحبهم ؟ قال:لا ، أكره أن تتحدث العرب بينها أن محمدا قاتل بقوم حتى [ إذا] أظهره الله بهم أقبل عليهم يقتلهم ، ثم قال:اللهم ارمهم بالدبيلة . قلنا:يا رسول الله ، وما الدبيلة ؟ قال:شهاب من نار يقع على نياط قلب أحدهم فيهلك .
وقال الإمام أحمد - رحمه الله -:حدثنا يزيد ، أخبرنا الوليد بن عبد الله بن جميع ، عن أبي الطفيل قال:لما أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوة تبوك ، أمر مناديا فنادى:إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ العقبة فلا يأخذها أحد . فبينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوده حذيفة ويسوقه عمار ، إذ أقبل رهط متلثمون على الرواحل ، فغشوا عمارا وهو يسوق برسول الله ، وأقبل عمار - رضي الله عنه - يضرب وجوه الرواحل ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحذيفة:قد ، قد . حتى هبط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ فلما هبط] نزل ورجع عمار ، فقال:يا عمار ، هل عرفت القوم ؟ فقال:قد عرفت عامة الرواحل ، والقوم متلثمون . قال:هل تدري ما أرادوا ؟ قال:الله ورسوله أعلم . قال:أرادوا أن ينفروا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيطرحوه . قال:فسار عمار رجلا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال:نشدتك بالله كم تعلم كان أصحاب العقبة ؟ قال:أربعة عشر . فقال:إن كنت منهم فقد كانوا خمسة عشر . قال:فعذر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم ثلاثة قالوا:والله ما سمعنا منادي رسول الله ، وما علمنا ما أراد القوم . فقال عمار:أشهد أن الاثني عشر الباقين حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد .
وهكذا روى ابن لهيعة ، عن أبي الأسود ، عن عروة بن الزبير نحو هذا ، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر أن يمشي الناس في بطن الوادي ، وصعد هو وحذيفة وعمار العقبة ، فتبعهم هؤلاء النفر الأرذلون ، وهم متلثمون ، فأرادوا سلوك العقبة ، فأطلع الله على مرادهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمر حذيفة فرجع إليهم ، فضرب وجوه رواحلهم ، ففزعوا ورجعوا مقبوحين ، وأعلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حذيفة وعمارا بأسمائهم ، وما كانوا هموا به من الفتك به ، صلوات الله وسلامه عليه ، وأمرهما أن يكتما عليهم .
وكذلك روى يونس بن بكير ، عن ابن إسحاق ، إلا أنه سمى جماعة منهم ، فالله أعلم .
وكذا قد حكي في معجم الطبراني ، قاله البيهقي . ويشهد لهذه القصة بالصحة ، ما رواه مسلم:
حدثنا زهير بن حرب ، حدثنا أبو أحمد الكوفي ، حدثنا الوليد بن جميع ، حدثنا أبو الطفيل قال:كان [ بين] رجل من أهل العقبة [ وبين حذيفة بعض ما يكون بين الناس ، فقال:أنشدك بالله ، كم كان أصحاب العقبة] قال:فقال له القوم:أخبره إذ سألك . قال:كنا نخبر أنهم أربعة عشر ، فإن كنت منهم فقد كان القوم خمسة عشر ، وأشهد بالله أن اثني عشر منهم حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ، وعذر ثلاثة قالوا:ما سمعنا منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا علمنا بما أراد القوم . وقد كان في حرة فمشى ، فقال:إن الماء قليل ، فلا يسبقني إليه أحد ، فوجد قوما قد سبقوه ، فلعنهم يومئذ .
وما رواه مسلم أيضا ، من حديث قتادة ، عن أبي نضرة ، عن قيس بن عباد ، عن عمار بن ياسر قال:أخبرني حذيفة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:في أصحابي اثنا عشر منافقا ، لا يدخلون الجنة ، ولا يجدون ريحها حتى يلج [ الجمل] في سم الخياط:ثمانية تكفيكهم الدبيلة:سراج من نار يظهر بين أكتافهم حتى ينجم من صدورهم .
ولهذا كان حذيفة يقال له:"صاحب السر ، الذي لا يعلمه غيره "أي:من تعيين جماعة من المنافقين ، وهم هؤلاء ، قد أطلعه عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دون غيره ، والله أعلم . وقد ترجم الطبراني في مسند حذيفة تسمية أصحاب العقبة ، ثم روى عن علي بن عبد العزيز ، عن الزبير بن بكار أنه قال:هم معتب بن قشير ، ووديعة بن ثابت ، وجد بن عبد الله بن نبتل بن الحارث من بني عمرو بن عوف ، والحارث بن يزيد الطائي ، وأوس بن قيظي ، والحارث بن سويد ، وسعد بن زرارة وقيس بن فهد ، وسويد وداعس من بني الحبلي ، وقيس بن عمرو بن سهل ، وزيد بن اللصيت ، وسلالة بن الحمام ، وهما من بني قينقاع ، أظهرا الإسلام .
وقوله:( وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله ) أي:وما للرسول عندهم ذنب إلا أن الله أغناهم ببركته ويمن سفارته ، ولو تمت عليهم السعادة لهداهم الله لما جاء به ، كما قال ، عليه السلام للأنصار:ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي ؟ وكنتم متفرقين فألفكم الله بي ؟ وعالة فأغناكم الله بي ؟ كلما قال شيئا قالوا:الله ورسوله أمن .
وهذه الصيغة تقال حيث لا ذنب كما قال تعالى:( وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد ) [ البروج:8] وكما قال - عليه السلام - ما ينقم ابن جميل إلا أن كان فقيرا فأغناه الله .
ثم دعاهم الله تبارك وتعالى إلى التوبة فقال:( فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة ) أي:وإن يستمروا على طريقهم ( يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا ) أي:بالقتل والهم والغم ، ( والآخرة ) أي:بالعذاب والنكال والهوان والصغار ، ( وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير ) أي:وليس لهم أحد يسعدهم ولا ينجدهم ، ولا يحصل لهم خيرا ، ولا يدفع عنهم شرا .