الجهاد ماض إلى يوم القيامة
قال تعالى:
يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير 73
بين الله تعالى حال المشركين ، وما هم عليه ، وذكر العذاب الذي يستقبلهم في الدنيا والآخرة ، ثم بين حال المؤمنين ، ثم يدعو سبحانه إلى استمرار المؤمنين في الجهاد ، غير وانين ولا مقصرين .
والخطاب في الآية للنبي صلى الله عليه وسلم ، وللمؤمنين معه ، وكان الخطاب للنبي ابتداء ، لأنه القائد الأعلى ، ولأنه الهادي والمرشد ، والموجه ،{ جاهد} معناها ابذل الجهد في دفع الكفار والمنافقين الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام بألسنتهم ، ويقولون آمنا بأفواههم ، وما هم بمؤمنين ، ولا شك أن بذل الجهد في دفع الكفار والمنافقين يختلف ، فالكفار الذين أعلنوا الكفر وفتنوا المسلمين يكون جهادهم دفعا بالسيف والقتال ، والكفار الذين لم يعلنوا الكفر وأبطنوه ، ولم يفتنوا المسلمين بالإيذاء والتعذيب . . .كان يفعل ذلك المشركون في مكة ولكنهم يثيرون الفساد ، والدس والفت في عضد المؤمنين فدفعهم يكون بدفع أذاهم وشرهم ، ومقاومة ما يبثونه في المؤمنين من تضليل ، وأن يبعدهم عنهم ، وبطلان ما يدعون إليه ، وإقامة الأدلة عليهم ومنع تأثيرهم ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:"جاهدوا المشركين بأنفسكم وأموالكم وألسنتكم"، ولا شك أن الجهاد باللسان له مقامه في جهاد المشركين ، وأشد ما يكون تأثيرا في جهاد المنافقين .
ومن جهاد المنافقين ألا يبش لهم ، حتى يطمعوا في خداعه ، بل يشعرهم بأنه في حذر منهم ، ويقول ابن مسعود:يستنكر أفعالهم بيده ، فإن لم يستطع فباكفهرار وجهه . وفي الجملة يسد عليهم باب خديعتهم ، وقال الحسن البصري:إن جهاد المنافقين بإقامة الحدود ، وذلك على أساس مذهبه من أن مرتكب الكبيرة منافق ، ويرى ابن جرير أن يكون جهادهم بالسيف إذا كشف نفاقهم ، وأظهروا كفرهم ، ويقول في ذلك إنهم في هذه الحال يخرجون من إسرار النفاق إلى الجهر بالكف ، فيدخلون في عموم الكفار المظهرين الكفر .
ولقد روى عن علي كرم الله وجهه أنه قال:بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعة أسياف:سيف للمشركين بينه الله تعالى بقوله:{ فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم . . .5}وسيف لكفار أهل الكتاب ، وبينه سبحانه وتعالى بقوله:{ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله و لاباليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون 29} ، وسيف للمنافقين بينه الله سبحانه بقوله تعالى:{ يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين} ، وسيف للبغاة ، كما قال تعالى:{. . . فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله . . .9}( الحجرات ) .
وإنه قد روى أن الذي تولى سيف المنافقين هو الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد تكشف نفاقهم في الردة التي وقعت عقب وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ ارتد الأعراب الذين قال الله تعالى عنهم:{ الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله . . .97} .
وإنه لهذا قال ابن جرير بقتل المنافق وقد لاحظ وصف الظهور ، كالذين ارتدوا في عهد الصديق وقاتلهم عندما أرادوا أن يؤدوا الصلاة ، ولا يؤتوا الزكاة ، فقال لهم رضي الله عنه:"سلم مخزية ، أو حرب مجلية".
وقوله تعالى:{ واغلظ عليهم} أي عاملهم بخشونة ، ولا ترفق بهم فإن الرفق يكون بحملهم على الإيمان بالشدة حتى لا يمنعوا في الكفر ، وعسى أن تكون الشدة دافعة غرورهم مانعة طغواءهم ، وهذا عذابهم في الدنيا ، ويكون بالهزيمة ، والخزي والخسران .
أما جزاؤهم في الآخرة ، فقد ذكره سبحانه وتعالى:{ ومأواهم جهنم وبئس المصير} والمعنى يسيرون إلى الآخرة حتى يجدوا المأوى الذي يؤويهم ، وهو جهنم في هذا نوع من التهكم ؛ لأن المأوى في هذا المقام تهكم عليهم كقوله تعالى:{. . .فبشرهم بعذاب أليم 21}( آل عمران ) .
ثم ذم الله تعالى هذا المأوى فقال:{ وبئس المصير} الذي آووا إليه . اللهم قنا عذاب النار .