/م73
قال عزَّ وجلَّ:
{ يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم} أي ابذل جهدك في مقاومة الفريقين الذين يعيشون مع المؤمنين بمثل ما يبذلون من جهدهم في عداوتك ، وعاملهم بالغلظة والشدة الموافقة لسوء حالهم ، وقدم ذكر الكفار في جهاد الدنيا لأنهم المستحقون له بإظهارهم لعداوتهم له صلى الله عليه وسلم ولما جاء به ، والمنافقون يخفون كفرهم وعداءهم ويظهرون الإسلام فيعاملون معاملة المسلمين في الدنيا ، وقدم ذكر المنافقين في جزاء الآخرة لأن كفرهم أشد ، وعذرهم فيه أضعف ، وقد تقدم تفسير الجهاد بمعناه العام المستعمل في القرآن وبمعناه الخاص بالقتال في مواضع أجمعها الاستطراد الذي كتبناه في آخر آية الجزية[ ج 10] ، وفيها أن الجهاد مشاركة من الجهد ، وهو الطاقة والمشقة كالقتال من القتل ، وأنه حسي ومعنوي ، وقولي وفعلي ، واتفق علماء الملة على أن المنافقين يعاملون بأحكام الشريعة كالمسلمين الصادقين ، فلا يقاتلون إلا إذا أظهروا الكفر البواح بالردة ، أو بغوا على جماعة المسلمين بالقوة ، أو امتنع بعض طوائفهم من إقامة شعائر الإسلام وأركانه .
وروي في تفسير الآية المأثور عن ابن عباس رضي الله عنه قال:جهاد الكفار بالسيف ، وجهاد المنافقين باللسان ، ففسر الكفار هنا بالحربيين ، وسيأتي من جهاد المنافقين حرمانهم من الخروج والقتال مع النبي صلى الله عليه وسلم ومن صلاته على جنائزهم .وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال:لما نزلت{ يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين} أمر رسول الله أن يجاهد بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، فإن لم يستطع فليلقه بوجه مكفهر ، فقوله:( فليلقه )يفهم منه أن هذا في جهاد الأفراد بالمعاملة ، لا في جهاد الجماعات بالمقاتلة ، فهو إذا بمعنى إزالة المنكر في قوله صلى الله عليه وسلم:( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان ){[1613]} ، رواه الجماعةإلا البخاريمن حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، وزاد ابن مسعود لقاء الكافر أو المنافق بوجه مكفهر ، أي عبوس مقطب ، ولكن لا يظهر جعله دون كراهة القلب ، ولا أن كراهة القلب لا تستطاع ، ولم نقف على سند هذا الحديث فنعرف مكانه من الصحة .
وكان من شمائله صلى الله عليه وسلم طلاقة الوجه والبشاشة في وجوه جميع من يلقاهم حتى الكفار والمنافقين ، روى الشيخان وأبو داود والترمذي عن عائشة أن رجلا استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما رآه قال:( بئس أخو العشيرة ، وبئس ابن العشيرة ) ، فلما جلس تطلق النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه وانبسط إليه ، فلما انطلق الرجل قالت له عائشة:يا رسول الله حين رأيت الرجل قلت له كذا وكذا ، ثم تطلقت في وجهه وانبسطت إليه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( يا عائشة متى عهدتني فاحشاً ؟ إن شر الناس عند الله منزلةً يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره ){[1614]} ، وكان ذلك الرجل على الراجح عيينة بن حصن الذي تقدم ذكره في المؤلفة قلوبهم في سياق قسمة الغنائم بعد غزوة حنين وسياق مصارف الزكاة ، وكان سيد قومه على حماقته ، فلقب بالأحمق المطاع ، وقد أسلموا تبعاً له فكان إسلامهم أصح من إسلامه .
ولا تعارض بين الحديثين لأن حديث عائشة في شمائل النبي وآدابه العامة ، وحديث ابن مسعود في معاملة خاصة بالمنافقين والكفار هي من قبيل العقوبة ، فالأول:بمعنى قوله تعالى:{ فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك} [ آل عمران:159] ، وفي معناه أحاديث كثيرة ، والثاني:مفسر للآية التي نحن بصد تفسيرها وفي معناها قوله تعالى:{ قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة} [ التوبة:123] ، والغلظة في اللغة الخشونة والشدة ، ومعاملة العدو المحارب بهما من الشيء في موضعه ، ومعاملته باللين والرحمة وضع لهما في غير موضعهما:
ووضع الندى في موضع السيف في العلا مضر كوضع السيف في موضع الندى
وأما الأعداء غير المحاربين كالمنافقين الذين قال الله عنهم لرسوله:{ هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون} [ المنافقون:4] والكفار المعاهدين والذميين الخائنين فكان صلى الله عليه وسلم يعاملهم أولاً بلطفه ولينه بناء على حكم الإسلام الظاهر ، وكانت هذه المعاملة هي التي جرأت المنافقين على أذاه بما تقدم في هذا السياق ، ومنه قولهم فيه:[ هو أذن] ، وكذلك كفار اليهود كان صلى الله عليه وسلم عاهدهم ووفى لهم ، وكانوا يؤذونه حتى بتحريف السلام عليه بقولهم:السام عليكم ، وهو الموت فيقول:( وعليكم ) ثم تكرر نقضهم لعهده حتى كان من أمرهم ما تقدم بيانه في تفسير سورة الأنفال( ج 10 ) ، فأمره الله تعالى في هذه الآية بالغلظة على الفريقين في جهاده التأديبي لهم ، ومثلها بنصها في سورة التحريم ، وهو جهاد فيه مشقة عظيمة ، لأنه موقف وسط بين رحمته ولينه للمؤمنين المخلصين ، وشدته في قتاله للأعداء الحربيين ، يجب فيه إقامة العدل واجتناب الظلم .
ومن كلام عمر رضي الله عنه فيه:أذلوهم ولا تظلموهم .وهذه الغلظة الإدارية [ أي غير الطبيعية] تربية للمنافقين وعقوبة ، يرجى أن تكون سبباً لهداية من لم يطبع الكفر على قلبه ، وتحيط به خطايا نفاقه ، فإن اكفهراره صلى الله عليه وسلم في وجوههم تحقير لهم يتبعه فيه المؤمنون ، وبه وبما سيأتي يفقدون جميع منافع إظهار الإسلام الأدبية ، ومظاهر أخوة الإيمان وعطفه ، فمن رأى أنه محتقر بين قومه وأبناء جنسه ، من الرئيس والإمام الأعظم وغيره يضيق صدره ، ويرجع إلى نفسه بالمحاسبة ، فيراها إذا أنصف وتدبر مليمة مذنبة ، فلا يزال ينحي عليها باللائمة ، حتى تعرف ذنبها ، وتثوب إلى رشدها ، فتتوب إلى ربها ، وهي سياسة حكمة كانت سبب توبة أكثر المنافقين ، وإسلام ألوف الألوف من الكافرين .
هذا وإن معاشرة الرئيس من إمام وملك وأمير لمنافقي قومه بمثل ما يعاشر به المخلصين منهم فيه توطين لأنفسهم على النفاق ، وحمل لغيرهم على الشقاق ، فكيف إذا وضع المحاسنة موضع المخاشنة ، والإيثار لهم ، حيث تجب الأثرة عليهم ، وبالغ في تكريمهم بالحباء والاصطفاء ، لمبالغتهم في التملق له ودهان الدهاء ، والإطراء في الثناء ؟ فإن هذه المعاملة مفسدة لأخلاق الدهماء ، ومثيرة لحفائظ المخلصين الفضلاء ، وكم أفسدت على الملوك الجاهلين أمرهم ، وكانت سبباً لإضاعة ملكهم .
{ ومأواهم جهنم وبئس المصير} هذا جزاؤهم في الآخرة عطفه على جزائهم في الدنيا ، فهم لا مأوى لهم يلجؤون إليه هنالك إلا دار العذاب الكبرى ، التي لا يموت من أوى إليها ولا يحيا ، فهم يصيرون إليها معتولين ، ويُدعُّون إليها مقهورين ، لا يأوون إليها مختارين ، وبئس المصير هي:{ إنها ساءت مستقرا ومقاما} [ الفرقان:66] .