/م71
ولما ذكر صفاتهم ورحمته لهم بالإجمال ، بين ما وعدهم من الجزاء المفسر لرحمته المؤكدة بالتفصيل ، في مقابلة ما أوعد به المنافقين وإخوانهم الكفار تفسيراً لنسيانه لهم ، فقال:{ وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن}الآية نص في مساواة النساء للرجال في نعيم الآخرة كله حتى أعلاه ، بالتبع لمساهمتهن لهم في التكليف وولاية الإيمان ، إلا ما خصهن الشرع له لضعفهن ، وانفرادهن بوظائفهن الخاصة بهن ، إذ حط عنهن وجوب القتال ، والصلاة والصيام في بعض الأحوال ، وهذا من المعلوم بالضرورة من أحكام الإسلام ، وإن جهله أو تجاهله أعداؤه الطغام ، والجنات البساتين الملتفة الأشجار بحيث تجن الأرض أي تغطيها وتسترها .وجريان الأنهار من تحت أشجارها ، مزيد في جمالها ، ومانع من أسون مائها ، والخلود فيها عبارة عن المقام الدائم ، وتقدم مثله مراراً .
وأما المساكن الطيبة في جنات عدن فهي الدور والخيام التي يطيب لساكنيها بها المُقام في ذلك المَقام ، لاشتمالها على جميع المرافق والأثاث والرياش والزينة والرزق الذي تتم به راحة المقيم فيها وغبطته ، ومنها الغرفات التي قال الله تعالى فيها:{ وهم في الغرفات آمنون} [ سبأ:37] وقال:{ والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نعم أجر العاملين} [ العنكبوت:58] وقال:{ لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار} [ الزمر:20] .
وأما إضافة هذه الجنات إلى [ عدن] فقد تعددت في التنزيل بما جاوز جمع القلة ، ومعنى العدن في اللغة الإقامة والاستقرار والثبات ، يقال عدن في مكان كذا من بابي ضرب وقعد أقام وثبت فيه ، ومنه المعدن لمستقر الجواهر كالذهب والفضة والماس وغيرها .وفسروها بقولهم:جنات إقامة وخلود كقوله تعالى:{ جنة الخلد} [ الفرقان:15] و{ جنة المأوى} [ النجم:15] ، ولكن هاتين وردتا باللفظ المفرد مضافاً إلى معرفة ، فهما اسمان لدار النعيم كلفظ الجنة في مثل{ ادخلوا الجنة} [ الأعراف:49] و{ يدخلون الجنة} [ النساء:124] ، وسيأتي في سورة يونس{ تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم} [ يونس:9] ، وأما"جنات عدن "فهو جمع أضيف إلى هذا اللفظ المفرد [ عدن] ، فجعله بمعنى إقامةكما قيليقتضي جعله مكرراً مع قوله قبله{ جنات تجري من تحتها الأنهار} [ البقرة:25] ، لأنها وصفت بالإقامة وبالخلود فيها أيضاً ، على ما في تنكير عدن بهذا المعنى من الضعف ، فوجب أن يكون لفظ عدن معرفة ، ومعنى التركيب:في جنات المكان المسمى بهذا الاسم [ عدن] .وقد ورد في الأحاديث ما يفسر هذا ، وهو ذكر جنة عدن باللفظ المفرد المضاف ، وفي بعضها ما يدل على أن المراد بها مكان أو منزل من منازل دار النعيم كالفردوس الذي هو أوسط الجنة أو أعلاها ، وهو ما يكون فيه تجلي الرؤية ، التي هي أعلى النعيم وأكمل المعرفة:
روى الشيخان من حديث أبي بكر بن عبد الله بن قيس عن أبيه -وهو أبو موسى الأشعري رضي الله عنه- في تفسير آيات سورة الرحمن{ ولمن خاف مقام ربه جنتان} وقوله بعد وصفهما{ ومن دونهما جنتان} عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:( جنتان من فضة ، آنيتهما وما فيهما من فضة ، وجنتان من ذهب ، آنيتهما وما فيهما من ذهب ، وما بين القوم وبين أن ينظروا ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن ){[1610]} ، أي حالة كونهم في جنة عدن ، فالمتبادر من هذا أن جنة عدن مكان سام في طبقة من طبقات الجنة ، لا أنها نكرة مضافة إلى نكرة .ومجموع الحديث والآيات يدل على أن عدنا منزل في أعلى الجنة ، وأن فيه جنات أي بساتين متعددة ، لكل من خاف مقام ربه منها جنتان ، ومن دونهما جنتان ، وهي كالأربع الموصوفة في سورة الرحمن .
ويقرب من حديث أبي موسى المتفق عليه حديث أبي هريرة المتفق عليه أيضاً:( إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله ، كل درجتين ما بينهما كما بين السماء والأرض ، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة ، ومنه تفجر أنهار الجنة ، وفوقه عرش الرحمن ){[1611]} ، فيفهم منه أن الفردوس هو جنة عدن ، وهذا ما قاله مقاتل والكلبي ، قالا:عدن أعلى درجة في الجنة ، وفيها عين التسنيم ، والجنات محدقة حولها الخ ، وتتمته في تفسير البغوي .وقد ثبت في المرفوع أن أعلى درجة في الجنة على الإطلاق تسمى الوسيلة وهي درجة النبي صلى الله عليه وسلم التي طلب منا أن نسألها له في دعاء الأذان:( اللهم رب هذه الدعوة التامة ، والصلاة القائمة ، آت محمداً الوسيلة والفضيلة ، والدرجة الرفيعة ، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته ){[1612]} فهذه درجة خاصة .
ومن هنا يعلم أن قوله تعالى:{ ورضوان من الله أكبر} بعد ذكر جنات عدن يراد به أعلى درجات الرضوان ، وما هو إلا مقام رؤية الرب تعالى التي تكمل بها معرفة الرحمن ، وتتم سعادة الإنسان ، فالإنسان جسد وروح ، ففي الجنات ومساكنها أعلى النعيم الجسماني ، ورضوان الله الأكبر هو أعلى النعيم الروحاني ، فالتنوين فيه للتعظيم ، والدليل على ما حررته أنه لم يعطف مفرداً على ما قبله مما وعدوا به على الإيمان وأعماله لأنه فوق كل جزاء ، كما أشير إليه في قوله:{ للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} [ يونس:26] ؛ بل جاء مرفوعاً في اللفظ كرفعه معناه ، في جملة مستقلة تقديرها:وهنالك رضوان من الله أكبر وأعظم من تلك الجنات وما فيها .لا يقدر قدره ، ولا يكتنه سره .
فهذا ما يفهم بمعونة الحديث من اختلاف إعرابه ووصفه باسم التفضيل [ أكبر] ، وقد ورد لفظ [ رضوان] معطوفا على ما قبله غير موصوف بهذا الوصف ، ولا موصولاً بكونه من الله في آية{ يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان} [ التوبة:21] من هذه السورة وذكرت في تفسيرها ما ورد من قوله تعالى:{ ورضوان من الله} معطوفاً على الجنات والأزواج ، فهل يجوز في بلاغة القرآن أن يكون ما هنا من اختلاف الإعراب ووصف أكبر بغير فائدة ؟ وهل يجد له من الفائدة ما هو أليق به مما ورد في الحديث الصحيح من نعمة الرؤية ؟ كلا ، ولم يبين هذا بنص صريح في القرآن ، لئلا يكون فتنة لمن لم تسم أرواحهم إلى إدراك هذه المعاني ، فحكمته الرحمة بضعف الإنسان ، واللبيب يفهم بالإشارة ، ما لا يفهمه الغبي بأفصح عبارة ، أفلم تر كيف اختلف الألباء في فهم قوله سبحانه:{ وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} [ القيامة:22 ، 23] .
وأما تحقيق معنى الرؤية والحكم فيما اختلفوا فيه من معنى هذه الآية ، ومعنى رداء الكبرياء وغيره من الحجب التي تحجب العبد عن ربه ، فقد فصلته في تفسير سورة الأعراف تفصيلاً يقربه من العقل والعلم( ج 9 تفسير ) ، فهو وما هنا مما انفرد هذا التفسير بتحقيقه بإلهام الله تعالى وفضله وله الحمد والمنة:
ووجه المقابلة الضدية بين ما هنا وما في وعيد المنافقين قبله ظاهر ، فالجنات التي تجري من تحتها الأنهار والخلود فيها مقابل لنار جهنم والخلود فيها ، والمساكن الطيبة في جنات عدن مقابل للعذاب المقيم ، ورضوان الله الأكبر للمؤمنين مقابل للعنة الله للمنافقين والكافرين ، إذ هي الطرد والحرمان من رحمته الخاصة ، نعوذ بوجهه .
{ ذلك هو الفوز العظيم} أي ذلك الذي ذكر من الوعد للمؤمنين والمؤمنات بالنعيم الجسماني والروحاني ، هو الفوز العظيم الذي يجزى به أولئك المؤمنون الصالحون المصلحون دون غيره من هذه الحظوظ الدنيوية الخسيسة الفانية التي يتكالب عليها الكفار والمنافقون الفاسدون المفسدون ، وإنما هي في نظر المتقين بلغة عامل ، وزاد مسافر ، فما على المؤمن إلا أن يحاسب نفسه وينصب لها الميزان ، من كفة المؤمنين وكفة المنافقين في هذه الآيات ، ويحكم لها أو عليها بحكم الله عز وجل لا بهواها ، ولا يغترن أحد بلقب الإسلام ، ولا بدعوى الإيمان ، إلا إذا شهد بصدقه القرآن وقد ورد في وصف الجنة ودرجاتها وحورها روايات كثيرة منها المنكر والموضوع ، والمرسل والموقوف ، ومن المرفوع منها ما أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه عن الحسن أنه سأل عمران بن حصين وأبا هريرة عن تفسير{ ومساكن طيبة في جنات عدن} فذكر أنهما قالا له:على الخبير سقطت ، وأنهما سألا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرا وصفاً طويلاً منه أنه يوجد هنالك ألوف من البيوت في كل منها ألوف من الحور العين ..وهو منكر لا يصح له متن ولا سند .وقد قال المحقق ابن القيم:إنه لم يثبت في نساء الجنة حديث صحيح بأكثر من زوجين لكل رجل ، وقد روى ابن أبي شيبة عن كعب الأحبار معنى هذا الحديث ، والظاهر أن المرفوع من دسائسه أيضا .