وإذا كان سبحانه قد ذكر وعيد المنافقين فإنه سبحانه يذكر وعد المؤمنين فيقول سبحانه:{ وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم 72} .
وعد الله تعالى أن يعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ، وكان الوعد هو ذات الجنات ، لا إعدادها ، وفي ذلك إشعار بأنها موجودة مهيأة قائمة ثابتة ، ليس أمامهم إلا أن يدخلوها ، ولذا لم يذكر دخولها ، بل ذكر وجودها ، وذكر سبحانه أن الأنهار تجري من تحتها ، فقال سبحانه وتعالى:{ وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار} وجريان الأنهار يفيد ثلاثة أمور:
أولها:أن ساكنها يتمتع بمنظر بهيج ، وثانيها:أنها تجعل جوها لطيفا ، لا قر ولا حرور ، وثالثها:أنها تمد جذور أشجارها بالماء الطيب الذي يجعلها وافرة الظلال لا يبس فيها ، بل لها غصون خضراء تجعل المتعة كاملة .
وقال تعالى:{ ومساكين طيبة في جنات عدن} والمساكن الطيبة هي المساكن التي يستطيب نازلها الإقامة فيها ، وهي ممهدة تمهيدا طيبا للإقامة ، وقد روى أنها قصور من اللؤلؤ والياقوت الأحمر ، والزبرجد ، وروى أنها تكون لبنات من فضة وذهب ، ولا تعارض في أن تكون كذلك ، ولكن نقول إنها مساكن طيبة تطيب الإقامة فيها ، وتستريح النفس والقلب بالإقامة ، و{ عدن} قال الزمخشري فيها:إن جنات عدن التي وعد بها الرحمن ، ويدل عليه ما رواه أبو الدرداء رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"وعدن دار الله تعالى التي لم ترها عين ، ولم تخطر على قلب بشر ، لا يسكنها غير ثلاثة:النبيون والصديقون والشهداء ، يقول الله تعالى:طوبي لمن دخلك{[1249]} .
وإن هذه الآية ، وهذه الآثار تدل على أن جنات عدن جزء من الجنة يكون فيها الأبرار ، والأطهار ، هذا كله جزاء مادي ، وهنا جزاء معنوي وهو رضوان الله تعالى ، فقد قال عز من قائل:{ ورضوان من الله أكبر} الرضوان هو الرضا العظيم ، فزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى ، وإن الإحساس بالرضا من الله رب الخلق ، وخالق الخلق سعادة لا تعدلها سعادة ، ولقد قال في ذلك الزمخشري كلمة قيمة ننقلها . "وشيء من رضوان الله تعالى أكبر من ذلك كله؛ لأن رضاه تعالى هو سبب كل فوز وسعادة ، ولأنهم ينالون برضاه عنهم تعظيمه وكرامته ، والكرامة أكبر أصناف الثواب ، ولأن العبد إذا علم أن مولاه راض كان ذلك أكبر في نفسه مما وراءه من النعيم ، وإنما تتهيأ له برضاه ، كما إذا علم بسخطته ، تنغصت عليه ، ولم يجد لها لذة ، وإن عظمت ، وسمعت بعض أولى الهمة البعيدة والنفس الحرة من مشايخنا يقول:لا تطمع عيني ، ولا تنازع نفسي إلى شيء بسخطته ، تنغصت عليه ، ولم يجد لها لذة ، وإن عظمت ، وسمعت بعض أولى الهمة البعيدة والنفس الحرة من مشايخنا يقول:لا تطمع عيني ، ولا تنازع نفسي إلى شيء مما وعد الله في دار الكرامة كما تطمع وتنازع إلى رضاه عني ، وأن أحشر في زمرة المهديين"اه .
ونرى أنه يفهم من قول الزمخشري أن قوله تعالى:{ ورضوان من الله أكبر} أن معناه شيء من رضوان الله أكبر ، أي أن أول شيء من رضوان الله تعالى أعظم من كل هذا النعيم .
ويقول سبحانه:{ ذلك هو الفوز العظيم} والإشارة هنا إلى نعيم أهل الجنة ، وتاجه رضوان الله تعالى ، هو الفوز والفلاح ، والحصول على أعظم جزاء ، ويصح أن تكون الإشارة إلى رضوان أكبر ؛ فإن ذلك الرضا العظيم جزاء لا يناهد ، والعبارة تدل على القصر بتعريف الطرفين وضمير الفصل{ هو} ، أي لا فوز غير هذا ، والله أعلم .