الآية الثّانية شرحت جانباً من هذه الرحمة الإِلهية الواسعة التي تعم المؤمنين في بُعديها المادي والمعنوي .فهي أوّلاً تقول: ( وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار ) ،ومن خصائص هذه النعمة الكبيرة أنّها لا زوال لها ولا فناء ،بل الخلود الأبدي ،لذا فإن المؤمنين والمؤمنات سيكونون ( خالدين فيها ) .
ومن المواهب الإِلهية الأُخرى التي سوف ينعمون بها هي المساكن الجميلة ،والمنازل المرفهة التي أعدها الله لهم وسط الجنان ( ومساكن طيبة في جنات عدن ) .
( عدن ) في اللغة تعني الإقامة والبقاء في مكان ما ،ولهذا يطلق على المكان الذي توجد فيه مواد خاصّة اصطلاح ( معدن ) ،وعلى هذا المعنى فإنّ هناك شبهاً بين الخلود وعدن ،لكن لما أشارت الجملة السابقة إِلى مسألة الخلود ،يفهم من هذه الجملة أن جنات عدن محل خاص في الجنّة يمتاز على سائر حدائق الجنّة .
لقد وردت هذه الموهبة الإِلهية بأشكال وتفسيرات مختلفة في الرّوايات وكلمات المفسّرين ،فنطالع في حديث عن النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ): «عدن دار الله التي لم ترها عين ،ولم يخطر على قلب بشر ،لا يسكنها غير ثلاثة: النّبيين ،والصّديقين ،والشّهداء »{[1651]} .
وفي كتاب الخصال نُقل عن النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) قوله: «من سرّه أن يحيا حياتي ،ويموت مماتي ،ويسكن جنتي التي واعدني الله ربّي ،جنات عدن ...فليوال علي بن أبي طالب( عليه السلام ) وذريته( عليهم السلام ) من بعده »{[1652]} .ويتّضح من هذا الحديث أن جنات عدن حدائق خاصّة في الجنّة سيستقر فيها النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) وجماعة من خلّص أصحابه وأتباعه .وهذا المضمون قد ورد في حديث آخر عن علي( عليه السلام ) ،ويدل على أن جنات عدن مقر إقامة نبي الإِسلام( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
بعد ذلك تشير الآية إِلى الجزاء المعنوي المعد لهؤلاء ،وهو رضى الله تعالى عنهم المختص بالمؤمنين الحقيقيين ،وهو أهم وأعظم جزاء ،ويفوق كل النعم والعطايا الأُخرى ( ورضوان من الله أكبر ) .
إنّ اللذة المعنوية والإِحساس الروحي الذي يحس ويلتذ به الإِنسان عند شعوره برضى الله سبحانه وتعالى عنه لا يمكن أن يصفه أي بشر ،وعلى قول بعض المفسّرين فإنّ نسمة ولحظة من هذه اللذة الروحية تفوق نعم الجنّة كلها ومواهبها المختلفة والمتنوعة واللامتناهية .
من الطبيعي أنّنا لا نستطيع أن نجسم ونرسم صورة في أفكارنا عن أي نعمة من نعم الحياة الأُخرى ونحن في قفص الحياة الدنيا وحياتها المحدودة ،فكيف سنصل إِلى إدراك هذه النعمة المعنوية والروحية الكبرى ؟!
نعم ،يمكن إِيجاد تصور ضعيف عن الاختلافات المادية والمعنوية التي نعيشها في هذه الدنيا ،فمثلا يمكن إدراك الاختلاف في اللذة بين اللقاء بصديق عزيز جداً بعد فراق طويل ولذّة الإِحساس الروحي الخاص الذي يعتري الإنسان عند إِدراكه أو حلّه لمسألة علمية معقدة صرف في تحصيلها والوصول إِلى دقائقها الشهور ،بل السنين ،أو الإِنشداد الروحي الذي يبعث على النشاط والجد في لحظات خلوص العبادة ،أو النشوة عند توجه القلب وحضوره في مناجاة تمتزج بهذا الحضور ،وبين اللذة التي نحس بها من تناول طعام لذيذ وأمثالها من اللذائذ ،ومن الطبيعي أن هذه اللذائذ المادية لا يمكن مقارنتها باللذائذ المعنوية ،ولا يمكن أن تصل إلى مصافها .
من هنا يتّضح التصور الخاطئ لمن يقول بأن القرآن الكريم عندما يتحدث عن الجزاء والعطاء الإِلهي الذي سيناله المؤمنون الصالحون يؤكّد على النعم المادية ،ولا يتطرق إِلى النواحي المعنوية ،لأن الجملة أعلاهأي: رضوان من الله أكبرذكرت أن رضوان الله أكبر من كل النعم ،خاصّة وأنّها وردت بصيغة النكرة ،وهي تدل على أن قسماً من رضوان الله أفضل من كل النعم المادية الموجودة في الجنّة ،وهذا يبيّن القيمة السامية لهذا العطاء المعنوي .
إن الدليل على أفضلية الجزاء المعنوي واضح أيضاً ،لأنّ الروح في الواقع بمثابة ( الجوهر ) والجسم بمكان ( الصدف ) ،فالروح كالآمر والقائد ،والجسم كالجندي المطيع والمنفذ ،فالتكامل الروحي هو الهدف ،والجسم وسيلة ولهذا السبب فإن إشعاعات الروح وآفاقها أوسع من الجسم واللذائذ الروحية لا يمكن قياسها ومقارنتها باللذائذ المادية والجسمية ،كما أن الآلام الروحية أشدّ ألماً من الآلام الجسمية .
وفي النهاية أشارت الآية إلى جميع هذه النّعم المادية والمعنوية ،وعبرت عنها بأنّ ( ذلك هو الفوز العظيم ) .