/م71
قال عز وجل:{ والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} تقدم بيان معنى الولاية بمعناها العام في تفسير قوله تعالى:{ الله ولي الذين آمنوا} [ البقرة:257] ، وفي مواضع أخرى من أجزاء التفسير ، وولاية النصرة الحربية وما يتعلق بها في مواضع أهمها في شأن المسلمين وأهل الكتاب تفسير قوله تعالى:{ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض} [ المائدة:45] ، وفي ولاية المؤمنين بعضهم لبعض والكفار بعضهم لبعض تفسير قوله تعالى:[ الأنفال:72 و73] .
ولاية المؤمنين والمؤمنات بعضهم لبعض في هذه الآية تعم ولاية النصرة ، وولاية الأخوة والمودة ، ولكن نصرة النساء تكون فيما دون القتال بالفعل ، فللنصرة أعمال كثيرة ، مالية وبدنية وأدبية ، وكان نساء النبي صلى الله عليه سلم ونساء أصحابه يخرجن مع الجيش يسقين الماء ويجهزن الطعام ، ويضمدن جراح الجرحى ، وفي الصحيح أن فاطمة عليها السلام كانت هي وأم سليم وغيرها ينقزن قرب الماء في غزوة أحد ويسرعن بها إلى المقاتلة والجرحى يسقينهم ويغسلن جراحهم .وكان النساء يحرضن على القتال ، ويرددن المنهزم من الرجال ، قال حسان:
يظل جيادنا متمطّرات يلطِّمهنَّ بالخمر النساءُ{[1609]}
وفي سيرة الخنساء رضي الله عنها أنها كانت تحرض أبناءها على القتال بشعرها كلما قتل واحد ، حتى إذا ما قتل الثالث قالت:الحمد لله الذي أكرمني بشهادتهم .هذا شأن الخنساء في الإسلام وكانت من أرق النساء قلباً ، وأكمدهن حزناً ، ورثاؤها لأخويها ملأ أندية الأدب شجواً وشجنا .ونكتة الفرق بين المؤمنين والمنافقين في الوصف المتقابل هنا أن المنافقين لا ولاية بينهم بأخوة تبلغ فضيلة الإيثار ، ولا تناصر يبلغ الإقدام على القتال ، لأن النفاق شكوك وذبذبة من لوازمهما الجبن والبخل ، وهما الخلقان المانعان من التناصر ببذل النفس والمال ، بل قصاراه التعاون بالكلام وما لا يشق من الأعمال .وإنما تكون ولاية التناصر بالقتال لأصحاب العقائد الثابتة ، والملة الراسخة ، سواء كانت حقاً أو باطلة ، ولذلك أثبتها القرآن لليهود والنصارى بعض كل منهما لبعض ، وللكفار على الإطلاق ، ولم يثبتها للمنافقين الخلص بعضهم مع بعض ، بل كذب منافقي المدينة في وعدهم لليهود حلفائهم بنصرهم على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إذا قاتلوهم في قوله:{ ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحداً أبداً وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون} [ الحشر:11 ، 12] .
فهذا ما يتعلق بالمقابلة بين المؤمنين والمنافقين في علاقة بعضهم ببعض ، وخلاصته أن المنافقين يشبه بعضهم بعضاً في شكهم وارتيابهم ونفاقهم وآثاره من قول وعمل ، وأن المؤمنين بعضهم أولياء بعض في الولاية العامة من أخوة ومودة وتعاون وتراحم ، حتى شبه النبي صلى الله عليه وسلم جماعتهم بالجسد الواحد ، وبالبنيان يشد بعضه بعضا ، وولاية النصرة في الدفاع عن الحق والعدل ، والملة والوطن ، وإعلاء كلمة الله عز وجل ، وفي آثار ذلك من القول والعمل المضاد لما عليه المنافقون وهو ما يبينه بياناً مستأنفاً بقوله:
{ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} كما أن المنافقين يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ، وهاتان الصفتان من أخص صفات المؤمنين التي يمتازون بها على المنافقين وعلى غيرهم من الكفار ، وهما سياج حفظ الفضائل ، ومنع فشو الرذائل ، فراجع مزاياهما في تفسير{ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} [ آل عمران:104] ، وقد فضل الله تعالى بهما أمة محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الأمم في قوله:{ كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} [ آل عمران:110] الآية ، وورد في فرضيتهما وفوائدهما آيات أخرى وأحاديث حكيمة .
{ ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة} أي يؤدون الصلاة المفروضة وما شاؤوا من التطوع على أقوم وجه وأكمله في شروطها وأركانها وآدابها ولا سيما الخشوع لله تعالى وكثرة ذكره فيها ، وما يوجبه الإيمان من حضور القلب في مناجاته ، ويعطون الزكاة المفروضة عليهم لمن فرضت لهم في الآية الستين من هذه السورة وما وفقوا له من التطوع .وفائدة إقامة هذين الركنين من أركان الإسلام مع الإخلاص في الإيمان قد بينه الله تعالى في قوله:{ إن الإنسان خلق هلوعاً إذا مسه الشر جزوعاً وإذا مسه الخير منوعاً إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم والذين يصدقون بيوم الدين} [ المعارج:19 26] الآيات ، فالصلاة والزكاة علاج لما في جبلة الإنسان من الهلع والجبن الحاجم له عن الإقدام في الدفاع عن الحق وإعلاء كلمة الله ، ومن الشح الصادّ له عن الإنفاق في سبيل الله ، ولذلك كان المنافقون أجبن الناس وأبخلهم .
وقد جعل الله تعالى هذه الأربع غاية للإذن للمؤمنين بقتال من يقاتلونهم ويعادونهم في الدين ، وسبباً لنصرهم وتمكينهم في الأرض بالملك والسيادة ، إذ قال بعد أول ما نزل من الإذن لهم في القتال{ الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر} [ الحج:41] ، وبهذه الصفات فتح المسلمون الفتوحات ، ودانت لهم الأمم طوعاً ، وبتركها سلب أكثر ملكهم ، والباقي على وشك الزوال إن لم يتوبوا إلى ربهم ، ويرجعوا إلى هداية دينهم ، ولا سيما إقامة هذه الأركان منه .
وإقامة المؤمنين للصلاة يقابل في صفات المنافقين نسيانهم لله عز وجل ، لأن روح الصلاة مراقبة الله تعالى وذكره بالقلب واللسان ، ولا فائدة لها بدون ذلك كما قال تعالى:{ إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر}[ العنكبوت:45] ، أي إن ذكره الذي شرعت الصلاة له هو أكبر من كل شيء ، إذ به يستحكم للمؤمن ملكة المراقبة لله تعالى في جملة أحواله وأعماله ، فينتهي عن الفحشاء والمنكر ، وتزكوا نفسه ، وتعلو همته ، وتكمل شجاعته ، ويتم سخاؤه ، ونجدته ، ولذلك قال:{ قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى} [ الأعلى:14 ، 15] وقال لموسى عليه السلام{ وأقم الصلاة لذكري}[ طه:14] .
وإيتاء المؤمنين للزكاة يقابل في صفات المنافقين قوله:{ ويقبضون أيديهم} ، ولقد كان المنافقون يصلون ، ولكنهم لم يكونوا يقيمون الصلاة ، وكانوا يزكون وينفقون ، ولكن خوفاً أو رياء لا طاعة لله ، وقد تقدم في هذا السياق{ وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون} [ التوبة:54] ، وتقدم في سورة النساء{ وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا} [ النساء:141] ، ومن لم يتدبر هذه الآيات كلها والمقارنة بين صلاة المؤمنين وصلاة المنافقين وزكاتهما لا يفقه حكمة الله تعالى في هذين الركنين اللذين هما أعظم أركان الإسلام ، وهذا الفقه لا يجده طالبه فيما يسميه الناس كتب الفقه ، وإن زعم الخاسرون الجاهلون أنها تغني عن هداية كتاب الله تعالى ، وأنه لم يبق للمسلمين فائدة منه إلا التعبد بتلاوته ، والتبرك بمصاحفه ، وكذا اتجار بعض حفاظ ألفاظه بتغنيهم به ! !
ثم قال:{ ويطيعون الله ورسوله} أي يستمرون على الطاعة ، بترك ما نهوا عنه وفعل ما أمروا به بقدر الاستطاعة ، وهو يقابل وصفه المنافقين بأنهم هم الفاسقون ، فإن الفسق هو الخروج من حظيرة الطاعة كما تقدم ، وقوله تعالى:{ أولئك سيرحمهم الله} يقابل نسيانه تعالى للمنافقين ولعنه لهم كما علم مما فسرناهما به آنفاً .والمراد أنه تعالى يتعهد المؤمنين والمؤمنات برحمته الخاصة المستمرة في مستقبل أمرهم في الدنيا والآخرة باستمرارهم على طاعته وطاعة رسوله ، وقد قال المحققون من علماء العربية:إن السين في مثل{ سيرحمهم} لتأكيد الإثبات كما أن«لن » لتأكيد النفي ، وكلتاهما للمستقبل .وقوله:{ إن الله عزيز حكيم} تذييل لتعليل هذا الوعد المؤكد ، وهو أنه تعالى عزيز لا يمتنع عليه شيء من وعده ولا من وعيده ، وحكيم لا يضع شيئاً منهما إلا في موضعه ، ولولا أن الوعد هنا للمقابلة بالوعيد الذي قبله لكان المناسب أن يقال:إن الله غفور رحيم .