اعتذار الأعراب
قال تعالى:وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم 90ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم91 ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا لا يجدوا ما ينفقون92
كان الكلام في المنافقين الذين نبتت نابتتهم في المدينة عندما انتصر المؤمنون في غزوة بدر الكبرى ، وصارت لهم القوة والسلطان فيها ، واستقر الأمر فيها للتوحيد ، والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وحيث كانت القوة العادلة ، اختفت العداوة الظاهرة ، واستمرت عداوة النفوس مستكنة فيها فيكون النفاق الذي يأكل القلوب ، ويملؤها حقدا ، ورغبة دانية في الكيد .
ولما صارت القوة للإسلام في الجزيرة العربية ، وصارت الكلمة العليا لله ولرسوله ، وجد سبب النفاق في داخل الجزيرة وحول المدينة كما قال سبحانه:{ وممن حولكم من الأعراب منافقون . . .101} .
وعندما يكون النفير العام ، أو الخاص يظهر من الأعراب اعتذارات بعضها صادق ، وبعضها كاذب ، ويقعد بعضهم عن الجهاد كفرا ونفاقا ، ولذا قال تعالى:
{ وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم} .
في الآية قراءات إحداهما بتشديد الذال مع كسرها ، والثانية بتخفيفها مع كسرها أيضا{[1263]} ، فقراءة التعذير في الأولى ، يكون معناها التقصير وعدم الاهتمام ، من قولهم عذر في الأمر إذا قصر فيه وتوانى ، وذلك مقصور في الأعراب الذين هم أجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله تعالى ، ولا فرق عندهم بين دعوة إلى الجهاد في سبيله ، ودعوة إلى عادات كانت تجري بينهم للمنازعة على الكلأ ، أو مواطن الماء ، أو للعصبية الجاهلية .
ويصح أن يكون المعذرون هم المعتذرون ، ويكون في الكلام إعلالا صرفيا ، فأصل"المعذرون"من اعتذر ، فقلبت التاء ذالا ، وأدغمت الذال ، ونقلت حركة التاء إلى العين ، ويكون المعنى جاء المعتذرون الذين شددوا في اعتذارهم ؛ لأن الادعاء ينبئ عن شدة الاعتذار ، وإن معنى ذلك أنهم يعتذرون بأعذار مقبولة ، ويدل على ذلك المقابلة ، وقوله تعالى بعد ذلك:{ وقعد الذين كذبوا الله ورسوله}
فإن المقابلة تقتضي التغاير بين القاعدين الذين لم يصدقوا الله ورسوله وكذبوا ، وبين المعذرين ، ولكن المقابلة لا تكون إلا إذا كان اعتذار الأولين حقا وصدقا .
وقراءة"المعذرون"بالتخفيف من الإعذار ، وهو إبداء العذر الذي يكون مظنة القبول .
وإننا نجد أن الآية من قراءاتها المختلفة تفيد إبداء العذر ، وإن المقابلة بين القاعدين الذين كذبوا الله ورسوله ، والمعتذرين تفيد أن العذر مقبول اقتضى الأمر لهم .
وقد جاء بذلك التفسير المأثور ، فقد روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في المعذرين:هم الذين تخلفوا لعذر فأذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وروى عنه غير ذلك ، والله أعلم ، وقيل إنها نزلت في عامر بن الطفيل ورهطه ، فإن رهطه قالوا عندما دعاهم صلى الله عليه وسلم إلى الغزو وقالوا:لو غزونا معك أغارت أعراب طيء على حلائلنا وأولادنا ومواشينا ، فعذرهم النبي صلى الله عليه وسلم{[1264]} .
وقوله تعالى:{ وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم} يفيد أولا أن الذين جاءوا هم المعذرون ولم يذكر الذين جاءوا مجاهدين ؛ لأن منهم من جاء مجاهدا ، وخصوصا أولئك الذين كانوا مع الرومان في مؤتة ، وتخلفوا عنهم في تبوك وخذلوهم ، ولكن ذكر المعتذرين فقط ؛ لأن الكلام في المستأذنين في التخلف بأعذار غير صادقة وهم المنافقون ، فناسب ذلك ذكر المعتذرين من الأعراب .
وتفيد ثانيا أنهم جاءوا للاعتذار وليؤذن لهم ، ولو كانوا يعتذرون كذبا ما جاءوا بل قعدوا كما قعد غيرهم ، وقال تعالى:
{ وقعد الذين كذبوا الله ورسوله} أي قعد وتوانى الذين كذبوا الله ورسوله ، وكذبوا بالتخفيف تتضمن معنى التكذيب لله ولرسوله ، ولآياته البينات ، ومعنى الكذب على الله ورسوله والناس بإظهارهم الإسلام ، وإبطانهم الكفر ، وإظهار أعذار غير صادقة .
وبين الله تعالى عاقبتهم فقال تعالى:{ سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم} وهنا إظهار في موضع الإضمار ؛ لأن المؤدى أنه سيصيب هؤلاء القاعدين الذين كذبوا الله ورسوله عذاب أليم ، وكان الإظهار لأمرين:أولهما- بيان أن منهم كافرين ، وبسبب الكفر سينالهم عذاب أليم ، وثانيهما- أن منهم من لا يصرون على الكفر فيتوبون ، فهذا العقاب للذين يصرون ولا يتوبون .
و( السين ) في قوله تعالى:{ سيصيب الذين كفروا منهم} لتأكيد وقوع الفعل في المستقبل .