وقد ذكر الله تعالى بعد ذلك أصحاب الأعذار المقبولة فقال:{ ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله} .
في هذه الآية وما بعدها بيان الأعذار التي تبيح التخلف عن الخروج ، ولم يذكرها القرآن الكريم بعنوان أنها أعذار ، ولكن النص يفيد أنه لا إثم إذا تخلفوا ، وذلك للإشارة إلى أن الجهاد غير واجب على هؤلاء ، والاعتذار إنما يكون عند الوجوب والتخلف ، وإذا لم يكن وجوب فالتخلف حينئذ له رخصة ، وهؤلاء عاجزون عن القيام بهذا ، والله لا يكلف العاجزين ؛ لأنه تعالى يقول:{ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها . . .286} ( البقرة ) فالجهاد غير واجب عليهم ، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن لهم فضل المجاهدين إذا نصحوا لله ورسوله ، والنصح إخلاص القلب واللسان والعمل لله تعالى فالقلب لا يحدث إلا بالله ، واللسان لا ينطق إلا مخلصا ، والعمل لا يكون إلا لله تعالى ، ويقال نصح له القول إذا أخلص له في قوله ، ونصح له في العمل إذا أخلص له ، ولقد روى مسلم في صحيحه عن تميم الداري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"الدين النصيحة .ثلاثا ، قلنا:لمن !قال:لله وكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم"{[1265]} .
وجاء في تفسير القرطبي:قال العلماء:النصيحة لله إخلاص الاعتقاد في الوحدانية ووصفه بصفات الأولهية وتنزيهه عن النقائص ، والرغبة في محابه ، والبعد عن مساخطه ، والنصيحة لرسوله التصديق بنبوته والتزام طاعته في أمره ونهيه ، وموالاة من والاه ، ومعاداة من عاداه ، وتوقيره ، ومحبة آل بيته( أي الذين اتبعوا هديه ) وتعظيمه ، وتعظيم سنته ، وإحياؤها بعد موته بالبحث عنها والتفقه فيها والذب عنها ونشرها والدعاء إليها والتخلق بأخلاقه الكريمة صلى الله عليه وسلم .
والنصح لكتاب الله قراءته والتفقه فيه ، والذب عنه وتعليمه ، وإكرامه والتخلق به . والنصح لأئمة المسلمين بترك الخروج عليهم ، وإرشادهم إلى الحق وتنبيههم فيما أغلوه من أجور المسلمين ، ولزوم طاعتهم في الحق والقيام بواجب حقهم .
والنصح للعامة ترك معاداتهم ، وإرشادهم ، وحب الصالحين والدعاء لجميعهم ، وإرادة الخير لكافتهم .
والمراد أنه لا إثم في التخلف على من سقط عنه واجب الجهاد إذا نصحوا لله ورسوله ، إن استقامت قلوبهم وألسنتهم ، وقاموا بحق الإرشاد والتنبيه ، وإن كان لهم رأى الجهاد وجهوه ، وكأنهم إذا سقط واجب الجهاد بالسيف ، والاعتراك في المعركة ، فإنهم يحملون واجبا آخر هو الإرشاد والتوجيه ، والمعاونة بكل ما يستطيعون ، وإنهم إذا كانوا كذلك فإن لهم فضل الجهاد .
وروى أبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لقد تركتم أقواما ما سرتم مسيرا ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم من واد ، إلا وهم معكم فيه"، قالوا:يا رسول الله وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة ! !فقال:"حسبهم العذر"{[1266]} .
وهؤلاء الذين سقط عنهم واجب الجهاد بالسيف ، والاشتراك في المعركة ، ذكرهم الله تعالى فقال:{ ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج}أي إثم أو أن يكلفوا أنفسهم العنت والضيق .
والضعفاء هم الشيوخ الذي أثقلتهم السن ، والنساء والصبيان ، وغيرهم من الذين لا تتحمل أجسامهم لضعف بنيتهم ، وخور منتهم{[1267]} ، والأعمى والأعرج ، كما قال تعالى:{ ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ومن يتول يعذبه عذابا أليما17}( الفتح ) .
والضعفاء الذين عذرهم ، وفيهم الأعمى والأعرج وعذرهم ثابت دائم ، وهناك أمر ليس بدائم ، وهو عارض ، ولكنه يسقط الوجوب في مدة وجوده ، وهو المرض الشديد الذي يقعد عن القيام بالواجب أو يزيده الجهاد مرضا .
وهناك عجز ليس في ذات الجسم دائما ، أو عارض قابل للزوال ، وهو ألا يجد ما ينفق منه على نفسه في رحلته ، وقال تعالى فيه:{ ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج} .
وكل لا يجب عليهم الجهاد ، ولكن يجب عليهم أن ينصحوا لله ورسوله ، وقد بينا ما قال العلماء في ذلك ، وإنهم بإخلاصهم ونصيحتهم ، والقيام بالواجب الذي يقدرون قد أحسنوا في جنب الله ، ولذا قال تعالى:{ ما على المحسنين من سبيل} .
وهذا النص السامي من جوامع الكلم . . .وهو يفيد أن هؤلاء الذين قعدوا بأعذار حقيقية إذا نصحوا لله ورسوله محسنون ، أي قاموا بالواجب وزيادة ، ومن أحسن لا عقاب عليه ، ومعنى قوله تعالى:{ ما على المحسنين من سبيل} أي طريق لتأثيم ، أو لوم أو عتاب ، إذ إن موقفهم أنهم قاموا بالواجب على قدر طاقتهم .