{لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( 91 ) وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ ( 92 ) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاء رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ( 93 ) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( 94 ) سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ( 95 ) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ( 96 )} ( 91 – 96 ) .
في الآيات:
( 1 ) تنبيه استدراكي بأن الله تعالى لا يؤاخذ الضعفاء ولا المرضى ولا الذين لا يجدون ما ينفقون فيمنعهم عجزهم عن الاشتراك الفعلي في الجهاد ويقعدون عنه إذا ما كانوا مخلصين حسني النية مجتهدين في النصح لله ورسوله ،ولا يؤاخذ كذلك الذين راجعوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ،وطلبوا منه تدبير الوسائل التي تساعدهم على الاشتراك فلم يستطع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إجابتهم ،فانصرفوا باكين حزنا على فقرهم وحرمانهم من ثواب الجهاد ؛لأنه ليس على من أدى واجبه على أحسن ما يقدر عليه أو أراد من كل قلبه أن يؤديه فعجز سبيل ولا حرج ولا إثم وإنما هذا على الذين يستأذنون في القعود ويتخلفون وهم أغنياء قادرون مفضلين البقاء مع الخوالف مهما كان في ذلك من ضعة وهوان .
( 2 ) ووصف لهؤلاء: فهم غلاظ القلوب كأنما طبع عليها فلم يدركوا ما في موقفهم من إثم وهوان .
( 3 ) وحكاية لما سوف يكون من الأعراب المعتذرين والقاعدين حينما يعود النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون ؛حيث يسارعون إلى الاعتذار واليمين بالله لتوكيد أعذارهم ويطلبون الإغضاء والإعراض عن تعنيفهم وتقريعهم والرضاء عنهم .
( 4 ) وأوامر تقريرية لما يجب أن يقابلوا به: فعلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمخلصين أن يعلنوهم بأنهم لن يركنوا إليهم ولن يصدقوهم بعد الآن ،وأن الله قد كشف لهم عن حقيقة أمرهم وكذب أحبارهم ،وأنه هو ورسوله مراقبوهم وشاهدون عليهم ،وأن الله سيحاسبهم حينما يقفون بين يديه ويردون إليه بما يستحقون وهو عالم الشهادة والغيب والعلن والسر .وعلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمخلصين أن يعرضوا عنهم إعراض تحقير ومقاطعة ونبذ فإنهم رجس ومأواهم النار .ولا يجوز لمؤمن أن يرضى عنهم .فإن فعلوا فإنما يفعلون خلاف ما يرضي الله ؛لأن الله لا يمكن أن يرضى عن القوم الفاسقين .
تعليق على الآية:
{لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ ..........................}
والآيات الخمس التي بعدها وما فيها من صور وتلقين
روى المفسرون أن قسما من الآية ( 91 ) في حق ابن أم كلثوم الضرير .وقسما آخر نزل في حق فقير اسمه أبو معقل لم يجد ما يساعده على الاشتراك في غزوة تبوك .وأن الآية ( 92 ) نزلت في جماعة التمسوا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يدبر لهم ما يحملهم حتى يشتركوا في الغزو .فقال لهم: لا أستطيع فحزنوا وبكوا حتى سموا البكائين لحرمانهم من الجهاد .
والآيتان منسجمتان مع السياق .وروحهما ونصهما ونص الآيات التي تأتي بعدهما يلهم بقوة أنهما جاءتا بمثابة تمهيد للتنديد بالقادرين بدنا ومالا على الاشتراك في الغزوة .ثم استأذنوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالقعود معتذرين بالأعذار الكاذبة .وهذا لا يمنع أن يكون ما انطوى فيهما من صور ومشاهد هي واقعية لبعض المخلصين من فقراء ومرضى ذوي عاهات ،فالتبس الأمر على الرواة وحسبوا أنهما نزلتا في شأنهم خصيصا .
ومعظم الروايات التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل ( 1 ){[1127]} ،تصرف ما جاء في الآيات: ( 93 – 96 ) إلى المنافقين المتخلفين في المدينة الذين يروون أن عددهم كان بضعة وثمانين .وبعضها يصرفها إلى المتخلفين بأعذار كاذبة أو بغير أعذار من أهل المدينة والأعراب عامة .ويأتي بعد هذه الآيات آيات فيها عدوة إلى ذكر الأعراب ؛حيث يلهم أن هذا الفصل جميعه من الآية: ( 90 ) إلى الآية ( 99 ) في صدد المعتذرين والقاعدين من الأعراب خاصة وأن الآيات: ( 93 – 96 ) هي بالتبعية في صددهم أيضا .
على أن الإطلاق في هذه الآيات يجعل اعتبارها شاملة لجميع المتخلفين بأعذار كاذبة أو بدون أعذار سائغا أيضا .وعلى كل حال فالآيات: ( 91 – 96 ) مع الآية السابقة لها ليست منفصلة عن السياق والكلام على المتخلفين والقاعدين .
وتعبير:{إذا رجعتم إليهم} وتعبير:{إذا انقلبتم إليهم} صريحا للدلالة على أن هذه الآيات نزلت أثناء سفرة تبوك .وهذه الصراحة منطوية في الآية ( 83 ) من الآيات السابقة حيث تتلاحق الدلالة على أن السلسلة جميعها قد نزلت في أثناء السفرة دفعة واحدة أو متلاحقة .
والآية الثالثة احتوت مشهدا رائعا من مشاهد إخلاص الفئة المخلصة وشدة رغبتها في الجهاد في سبيل الله .وإذا لوحظ بعد شقة الغزوة وضعف الأمل في الغنيمة ورجحان الخطر وشدة الحر تضاعفت روعة المشهد .ولقد روى الطبري وغيره روايات عديدة في أصحاب هذا المشهد منها أنهم نفر من بني مقرن من مزينة .ومنها أنهم سبعة من قبائل شتى .ومنها أنهم خليط من أعراب وأنصار .وقد أورد المفسرون سبعة أسماء ورووا أنهم أسماؤهم .وقد عر فوا في روايات السيرة بالبكائين ( 1 ){[1128]} .ولما كان الفصل في الأعراب فالاحتمال الأقوى أنهم أيضا من الأعراب .وإذا صح هذا كانت روعة المشهد أشد .وعلى كل حال فالمشهد مستمد إلهام بليغ دائم المدى .
كذلك فإن في الآيات الأخرى أحكاما وتلقينات قوية من شأنها أن تكون بدورها مستمد إلهام مستمر المدى: فالضعيف والمريض والفقير لا يؤاخذ إذا لم يشترك فعلا في النضال ؛لأنه عاجز عن وسائله أو عاجز ببنيته .ولكن إسلامه والإخلاص له يحملانه مسؤولية بذل جهده في النصيحة وفعل كل ما يقدر عليه في سبيل نفع المناضلين .فإن لم يفعل يكن مقصرا في واجبه .والمتخلف المتقاعس عن الجهاد مع القدرة عليه هو اللئيم والملوم الذي لا يجوز أن يكون محل تساهل وإغضاء ورضاء ،ويجب أن يكون موضع احتقار وزراية ونبذ .وظروف الشدة والنضال هي الظروف التي يمتاز فيها المخلص من المخامر .والمخامرة في هذه الظروف هي أشد أنواع المخامرات ضررا وخطرا .وتستحق من أجل ذلك أشد أنواع التنكيل والاحتقار والنبذ .