/م91
فقال:{ ليس على الضعفاء} الضعفاء جمع ضعيف وهو ضد القوي أي من لا قوة لهم في أبدانهم تمكنهم من الجهاد ، قال ابن عباس:يعني الزمنى والشيوخ والعجزة ، وقيل هم الصبيان وقيل النسوان ذكره البغوي .والزمنى بوزن المرضى وبالتحريك جمع زمين كمريض ، ويقال زمن ( ككتف ) وزمنون ، وهم من أصابتهم الزمانة وهي العاهة التي لا تزول بل تبقى على الزمان ، ومنها الكساح ( بالضم ) والعمى والعرج ، وقدم ذكر هؤلاء لأن عذرهم دائم لا يزول .
{ ولا على المرضى} جمع مريض وهم الذين عرضت لهم أمراض لا يتمكنون معها من الجهاد كالحميات وعذرهم ينتهي بالشفاء منها .
{ ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون} وهم الفقراء الذين لا يجدون مالاً ينفقون منه على أنفسهم إذا خرجوا للجهاد ويتركون لعيالهم ما يكفيهم ، وكان المؤمنون يجهزون أنفسهم للقتال ، فالفقير ينفق على نفسه ، والغني ينفق على نفسه وعلى غيره بقدر سعته ، كما فعلوا في غزوة تبوك ، إذا لم يكن للمسلمين بيت مال غني ينفق منه النبي صلى الله عليه وسلم على الغزاة ، وهذا العذر خاص بالمال ، ويزول إذا كان للأمة في بيت المال ما ينفقون منه ، أي ليس على هذه الأصناف الثلاثة{ حرج} أي ضيق في حكم الشرع يعدون به مذنبين ولا إثم في القعود عن الجهاد الواجب .
{ إذا نصحوا لله ورسوله} في حال قعودهم لعجزهم ، أي إذا أخلصوا لله تعالى في الإيمان وللرسول صلى الله عليه وسلم في الطاعة وأداء الأمانة بالقول والعمل ، ولا سيما الذي تقتضيه حالة الحرب فالنصيحة والنصح ( بالضم ) تحري ما يصلح به الشيء ويكون خالياً من الغش والخلل والفساد ، من قولهم:نصح العسل ونصع إذا كان خالصاً مصفى ، «ونصح الخياط الثوب إذا أنعم خياطته ولم يترك فيه فتقاً ولا خللاً » ذكره في مجاز الأساس ، وقال:«شبه ذلك بالنصح » على طريقته في جعل المعاني الحسية من المجاز والمعنوية من الحقيقة ، ونحن نرى عكس هذا ، أعني أن نصح العسل والخياط حقيقة ، والنصح في التوبة والطاعة هو المأخوذ منه ، والأجدر بأن يكون مجازاً ، إلا إن يكثر استعماله فيعد من الحقيقة ، ومنه يعلم أن من النصح لله ورسوله في هذه الحالة كل ما فيه مصلحة للأمة ولا سيما المجاهدين منها ، من كتمان سر ، وحث على بر ، ومقاومة خيانة الخائنين في سر أو جهر ، فالنصح العام ركن من الأركان المعنوية للإسلام به عز السلف وبزوا ، وبتركه ذل الخلف وابتزوا .
روى مسلم وأبو داود والنسائي عن تميم الداري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:( الدين النصيحة .قالوا لمن يا رسول الله ؟ قال:لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ){[1622]} .
وروى البخاري ومسلم والترمذي عن جابر قال:بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم{[1623]} .
{ ما على المحسنين من سبيل} السبيل الطريق السهل يطلق على الحسي منه والمعنوي ، في الخير وفي الشر ، كما تقدم في تفسير{ ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} [ الأنعام:153] ، و«من » لتأكيد النفي العام ، وهو أبلغ من قولك:« ما عليه سبيل » وإن كان عاما ، فقولك ما على فلان من سبيل معناه ليس لأحد أدنى طريق يسلكها لمؤاخذته أو النيل منه ، فكل السبل مسدودة دون الوصول إليه ، وهذا الاستعمال مكرر في القرآن .والمحسنون ضد المسيئين ، وهو عام في كل من أحسن عملا من أعمال البر والتقوى:{ بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه} [ البقرة:112] الآية .والشرع الإلهي يجزي المحسن بأضعاف إحسانه ، ولا يؤاخذ ولا يعاقب المسيء إلا بقدر إساءته .فإذا كان أولئك المعذورون في القعود عن الجهاد محسنين في سائر أعمالهم بالنصح المذكور انقطعت طرق المؤاخذة دونهم ، والإحسان أعم من النصح المذكور ، فالجملة تتضمن تعليل رفع الحرج عنهم بما ينتظمون به في سلك المحسنين ، فيكون رفعه عنهم مقروناً بالدليل .فكل ناصح لله ورسوله محسن ، ولا سبيل إلى مؤاخذة المحسن وإيقاعه في الحرج ، وهذه المبالغة في أعلى مكانة من أساليب البلاغة .
ولما ذكر رفع المؤاخذة عنهم بإحسانهم السلوك فيما هم معذورون فيه من القعود عن الجهاد وهو الذي اقتضاه المقام ، قفى عليه بالستر عليهم والصفح والإحسان إليهم فيما عداه ، على قاعدة« هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ؟ فقال:{ والله غفور رحيم} أي وهو تعالى كثير المغفرة واسع الرحمة ، فهو يستر على المقصرين ما لا يخلوا منه البشر من ضعف في أداء الواجبات لا ينافي الإخلاص والنصح لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ، ويدخلهم في رحمته في عباده الصالحين .وأما المنافقون المسيئون عملاً ونية فإنما يغفر لهم ويرحمهم إذا تابوا من نفاقهم الباعث لهم على إساءتهم .