{ وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم ( 90} )
هذه الآية في بيان حال الأعراب خاصة ، وهم بدو العرب الذين طلبوا الإذن بالتخلف ، والذين تخلفوا بغير إذن ، عقب بيان حال منافقي الحضر في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وسيأتي آيات أخرى في منافقي الأعراب ومؤمنيهم في الآيات 97 ، 98 ، 99 قال عزّ وجلّ:
{ وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم} المعذرون بالتشديد اسم فاعل من التعذير كالمقصرين من التقصير .هكذا قرأ الكلمة جمهور القراء ، وقرأها يعقوب بالتخفيف من الإعذار ، وروي هذا عن ابن عباس ، ولكن من طريق الكلبي ، وكذا عن مجاهد .وقد تقدم في تفسير الآية 66 معنى العذر والاعتذار .والإعذار إبداء العذر ومنه المثل«أعذر من أنذر » وأعذر:ثبت له عذر ، وقصر ولم يبالغ وهو يرى أنه مبالغ-كأنه ضد- وكثرت ذنوبه وعيوبه ، وله معاني أخرى كما في القاموس [ قال]:وقوله تعالى:{ وجاء المعذرون} بتشديد الذال المكسورة أي المعتذرون الذين لهم عذر ، وقد يكون المعذر غير محق فالمعنى المقصرون بغير عذر اه .وزاد شارحه:ومعنى المعذرون الذين يعتذرون كان لهم عذر أو لم يكن ، وهو ههنا شبيه بأن يكون لهم عذر .ويجوز في كلام العرب المعذرون بكسر العين المهملة الذين يعذرون:يوهمون أن لهم عذرا ولا عذر لهم .قال أبو بكر:ففي المعذرين وجهان:إذا كان المعذرون من عذر الرجل فهو معذر فهم لا عذر لهم ، وإذا كان المعذرون أصله المعتذرون فألقيت فتحة التاء على العين وأبدل منها ذال وأدغمت في الذال التي بعدها فلهم عذر .وقال أبو الهيثم في تفسير الآية:معناه المعتذرون ، يقال:عذَّر عذارا في معنى اعتذر ، ويجوز عذََّر الرجل يعذر عِذَّاراً فهو معذر .قال:ومثله:هدَّى يهدي هداء إذا اهتدى .قال الله:{ أمن لا يهدي إلا أن يهدي} [ يونس:35]اه .
وقال أطال ابن منظور في الكلام على المادة والمراد منها في الآية .
والحكمة في القراءتين على اختلاف معاني الصيغتين بيان اختلاف أحوال أولئك الأعراب في أعذارهم ، فمنهم من له عذر صحيح هو موقن به ، ومن له عذر صوري لا حقيقي وهو يوهم أنه حقيقي عالما بأنه مخادع ، ومنهم من له عذر ضعيف هو في شك منه إن نوقش فيه عجز عن إثباته ، ومنهم من لا عذر له في الواقع فهو كاذب في انتحاله ، وهذا من إيجاز القرآن العجيب بالإتيان بلفظ مفرد يتناول هذه الأقسام كلها ، مبهمة إلا عند أهلها ، للحكمة الآتية المقتضية لإبهامها .
والمعنى:وجاء الذين يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم أن يأذن لهم في التخلف عن الخروج إلى تبوك امتثالا للنفير العام ، من أولى التعذير والإعذار ، قال الضحاك:هم رهط عامر بن الطفيل جاؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم دفاعا عن أنفسهم ، فقالوا:يا نبي الله إن نحن غزونا معك تُغِير إعراب طيئ على حلائلنا وأولادنا ومواشينا ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:( قد أنبأني الله من أخباركم وسيغني الله عنكم ) .وقال ابن عباس:هم قوم تخلفوا بعذر بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم .أقول:وظاهره أن عذرهم حق ، وهو يصدق ببعضهم دون بعض ، كمقابله الذي يذكر عن أبي عمرو .
{ وقعد الذين كذبوا الله ورسوله} أي وقعد عن القتال وعن المجيء للاعتذار الذين كذبوا الله ورسوله من الأعراب ، أي أظهروا الإيمان بهما كذبا وإيهاماً ، يقالكما في الأساس:كذبته نفسه إذا حدثته بالأماني والأوهام التي لا يبلغها ، وكذبته عينه إذا أرته ما لا حقيقة له ، قال الأخطل:
كذبتك عينك أم رأيت بواسطٍغَلَسَ الظلام من الرباب خيالا{[1621]}
وهؤلاء هم المنافقون الأقحاح .قال أبو عمرو بن العلاء:كلا الفريقين كان مسيئاً:قوم تكلفوا عذراً بالباطل وهم الذين عناهم الله تعالى بقوله:{ وجاء المعذرون} ، وقوم تخلفوا من غير عذر فقعدوا جرأة على الله تعالى وهم المنافقون ، فأوعدهم الله بقوله:{ سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم} الظاهر المختار أن هذا الوعيد يعود على ما قبله من الفريقين عاما في المكذبين ، وخاصاً ببعض المعذرين ، كما هو المتبادر من قوله تعالى:{ منهم} أي الأعراب الذين اعتذر بعضهم وقعد بعض ، فإن الذين كذبوا الله ورسوله كلهم كفار ، وأما المعتذرون فمنهم الصادق في عذره ، والكاذب فيه لمرض في قلبه ، أو لتكذيبه لله ورسوله ، وكل منهم يعرف نفسه فيحاسبها إذا وجد الوعيد موضعا للعبرة منها ، ولو جعل التبعيض لهم وحدهم لظل القاعدون الكاذبون بغير وعيد وهم شر من شرهم ، فلا يصح التبعيض فيهم وحدهم ، ومن ثم اقتضى التحقيق أن يوجه الوعيد إلى الذين كفروا منهم لكفرهم لا لاعتذارهم ، وإلى الذين قعدوا لكفرهم لا لقعودهم ، بل للكذب الذي كان سببه وهو عين الكفر ، وهو لم يذكر بصيغة الحصر ،لأن من القعود ما يكون بعذر من الأعذار المنصوصة في الآية التالية وهم أولوا الضرر في قوله تعالى:{ لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى} [ النساء:95] الخ .فالإبهام لمستحقي هذا الوعيد من الفريقين من بلاغة القرآن التي امتاز بها إعجازه البياني .وهذا العذاب الأليم يراد به عذاب الدنيا وعذاب الآخرة جميعاً كما تقدم في آخر الآية [ 74] .