وهناك صنف غير من ذكرنا ليسوا ضعفاء ، ولا مرضى ، ويجدون ما ينفقون ، ولكن لا يجدون ما يحملهم في هذه الشقة البعيدة ، وهم يسقط الوجوب عليهم ، وقد قال تعالى فيهم:{ ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون92} .
( الواو ) هنا عاطفة ما بعدها على قوله تعالى:{ ليس على الضعفاء ولا على المرضى . . .} وتكرار لا لتأكيد نفي القدرة ، وتحقق العذر وثبوته .
فهؤلاء الأصناف أربعة:الضعفاء ، والمرضى ، والذين لا يجدون ما ينفقونه من زاد ، والصنف الرابع الذين لا يجدون ما يحملون عليه ، وكان الرجل كما قال ابن عباس يحتاج إلى بعيرين ، بعير يركبه ، وبعير يحمل الزاد والماء في هذه الرحلة الشاقة .
وقد قال في هؤلاء مبينا حالهم:{ ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه} وهذا يدل على أنهم لا يجدون ما يحملهم ، ويدل على أنهم شكوا حالهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن الرسول لم يجد ما يحملهم ، وذلك صريح ، وهذا الكلام فيه من إيجاز الحذف ما لا يمكن أن يكون إلا في أبلغ كلام وهو كلام رب العالمين ، وما في قوله تعالى:{ إذا ما أتوك لتحملهم} لتأكيد فعل الشرط ، وهو مجيئهم للنبي صلى الله عليه وسلم وعرض حالهم ، ومحاولة النبي صلى الله عليه وسلم علاج أمرهم ، والبحث عما يحملهم عليه ، وجواب الشرط هو قوله تعالى:{ تولوا وأعينهم تفيض من الدمع}( تولوا ) معناها انصرفوا ، وحالهم مؤلمة باكية ، وعبر عنه بقوله:{ وأعينهم تفيض من الدمع حزنا} .
وقوله تعالى:{ قلت لا أجد ما أحملكم} جملة معترضة بين فعل الشرط وجوابه ، أو حال الكاف في{ أتوك} ، وهذا ما اختاره الزمخشري .
وقوله تعالى:{ تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا} .
( الواو ) واو الحال ، و{ تفيض من الدمع حزنا} فيه مجاز في إسناد الفيض إلى العين ؛ لأن معناه أن العين ذاتها تفيض كأنها صارت دمعا ، لامتلائها ، واغروراقها ، و{ من} بيانية ، أي أن تفيض العين من الدمع ، والجار والمجرور في مقام التمييز ، كما تقول فاضت العين دمعا ، وقوله:{ حزنا} حال ، أي فاضت العين دمعا لأجل الحزن الذي استولى بسبب الحرمان من الجهاد ، وهو متعة نفوسهم ، وغاية ما يبتغون عند ربهم .
{ ألا يجدوا ما ينفقون} وألا يجدوا ، المصدر المؤول ، ويكون المعنى هم في حال حزن شديد ،{ ألا يجدوا} أي لأنهم لا يجدون ما ينفقون ، ولا يجدون ما يحملهم ، ففيه تقدير حرف محذوف .
وهذا يتضمن أنهم لا يجدون مركبا يركبونه ، ولا نفقة ينفقونها .
وإنه يجب أن ننبه أن بعض الضعفاء الذين رفع عنهم الحرج بسبب ضعفهم ، لم يرضوا بأن يكونوا قاعدين ، وإخوانهم يجاهدون ، بل ذهبوا وجاهدوا ، وتقدم أحدهم وهو أعرج ، قال لا بد أن أكون بعرجى في الجنة ، ولم يتراخ ولم يرض بالقعود ، وذهب بعضهم وهو يهادي بين رجلين ، حتى وصل إلى الصف ليموت مجاهدا رضي الله عنهم .