المفردات:
تولوا: انصرفوا راجعين .
وأعينهم تفيض من الدمع: أي: تسيل عيونهم دمعا غزيرا فياضا .
92 –{وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ} .
سبب النزول:
قال محمد بن إسحاق في سياق غزوة تبوك: ثم إن رجالا من المسلمين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم البكاؤون ،وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم من بني عمرو بن عوف: سالم بن عمير ،وعلي بن زيد أخو بني حارثة ،وأبو ليلى عبد الرحمان بن كعب أخو بني مازن النجار ،وعمرو بن الحمام بن الجموح أخو بني سلمة ،وعبد الله بن المغفل المزنى ،وحرمي بن عبد الله أخو بني واقف ،وعياض بن سارية الغزارى .
فاستحملوا رسول الله ،وكانوا أهل حاجة ؛فقال:{لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون} .
وروى في الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن بالمدينة أقواما ما قطعتم واديا ،ولا سرتم سيرا إلا وهم معكم ،قالوا: وهم بالمدينة ؟!قال:"نعم حبسهم العذر133 "في رواية أحمد:"حبسهم المرض ".
معنى الآية 92:
أي: لا حرج على الضعفاء ولا على المرضى ،ولا على الفقراء ،وكذلك لا حرج ولا إثم أيضا على الراغب في الجهاد الذي استعد للقتال بنفسه ،ولكنه لا يجد مركبا أو نفقة ينفقها في أثناء الجهاد على نفسه وعياله بسبب فقره – ومن أخصهم أولئك النفر من الأنصار الباكئين ،أو من بني مقرن من مزينة ،الذين جاءوا للنبي صلى الله عليه وسلم ليحملهم على الرواحل فلم يجد ما يحملهم عليه في هذا السفر الطويل ؛فانصرفوا من مجلسه وهم يبكون بكاءا شديدا ؛بسبب حزنهم على ما فاتهم من شرف المشاركة في الجهاد ،وبسبب فقدهم النفقة التي تساعدهم على الجهاد .
من أحكام الآيات
أوضحت الآيات سقوط فرضية الجهاد ؛بسبب العذر عن أصناف ثلاثة من ذوي الأعذار وهم: الضعفاء والمرضى والفقراء .
وقد دلت الآيات على أصلين من أصول الشريعة:
الأصل الأول:
سقوط التكليف عن العاجز ؛فكل من عجز عن شيء سقط عنه ،ولا فرق بين العجز من جهة القوة أو العجز من جهة المال ،ونظير قوله تعالى:{ليس على الضعفاء ولا على المرضى ...} الآيات ،قوله عز شأنه:{لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}( البقرة: 286 ) .
وقوله تعالى:{ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج}( الفتح: 17 ) .
الأصل الثاني:
الأصل في الأشياء براءة الذمة ،أو براءة المتهم ؛حتى تثبت إدانته ،ويعبر عنه بعبارة: الأصل براءة الذمة ،وهذا مبدأ البراءة الأصلية .
وذلك لقوله تعالى:{ما على المحسنين من سبيل} .
فالأصل في النفس حرمة القتل ،والأصل في المال حرمة الأخذ إلا لدليل ثابت ،أو لدليل منفصل مستقل .
جاء في تفسير القرطبي:
هذه الآية أصل في سقوط التكليف عن العاجز ،فكل من عجز عن شيء سقط عنه .
ويستفاد من سياق الآيتين: أنه متى وجدت النية الصادقة في فعل الخير ؛حصل الثواب ،وإن لم يكن هناك عمل ،بدليل أن المؤمنين الذين لم يخرجوا في الجهاد لعذر شرعي بشرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم مشاركون لمن خرج في الأجر .
روى عن زيد بن ثابت أنه قال: كنت أكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فكنت أكتب"براءة "فإني لواضع القلم على أذنى ،إذ أمرنا بالقتال ،فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر ما ينزل عليه ،إذ جاء أعمى فقال: كيف بي يا رسول الله وأنا أعمى ؟فنزلت:{ليس على الضعفاء ولا على المرضى ...} الآية .
تطبيق الصحابة
طبق صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن عمليا في حياتهم ،وجهادهم ،ورغبتهم في الشهادة واستعلائهم على مطالب الأرض ،ورغبتهم في مرضاة الله ،وحفلت كتب السيرة بجهادهم وبلائهم ،في غزوة بدر وأحد والخندق والحديبية وفتح مكة وفتح خيبر وغزوة تبوك وغزوة حنين والطائف وفتح بلاد الفرس والروم ومصر وشمال أفريقيا ؛وغير ذلك من الفتوحات .
وكان من الصحابة أصحاب الأعذار الذين أباح لهم القرآن القعود ؛لكنهم تطلعوا إلى الجهاد وثواب المجاهدين ؛فهذا عبد الله بن أم مكتوم كان أعمى ،وكان يخرج إلى غزوة أحد ويطلب أن يحمل اللواء .
وهذا عمرو بن الجموح – وكان أعرج – يخرج في مقدمة الجيوش ؛فيقول له الرسول صلى الله عليه وسلم:"إن الله قد عذرك "فيقول: والله لأحفرن بعرجتي هذه الجنة .أي: لأتركن آثار أقدامي فيها .
وكان يؤتى وهو يمشي بين الرجلين ؛من شدة ضعفه معتمدا على الرجلين ،ومع ذلك يحرص على أن يقف في صفوف المجاهدين .
وبهذه القلوب السليمة ،والعزائم القوية ،والنفوس القوية ؛ارتفعت كلمة الحق ،وعزت كلمة الإسلام .
ختام الجزء العاشر وبداية الحادي عشر
نلاحظ أن تقسيم الأجزاء كان يعتمد على مقياس كمّ الآيات ،فالآية التي يبدأ بها الجزء الحادي عشر مرتبطة تمام الارتباط بآيات قبلها ،تفيد: أنه لا حرج ولا إثم على من تخلف عن الجهاد من الأصناف الثلاثة: الضعفاء ،المرضى ،الفقراء .
ثم بين القرآن أن السبيل واللوم والعتاب ؛على من يستأذن في التخلف عن الجهاد والغزو في سبيل الله وهو غني قادر تملك أدوات الجهاد والتجهز له ؛لكنه قبل أن يكون مع الخوالف من النساء القاعدات في البيوت ،وطمس الله على قلوبهم فلم يدركوا ما فيه الربح لهم حتى يختاروه على ما فيه الخسران .